انّ المجتمع المريض الذي يحول دون إشباع حاجات أفراده والذي يفيض بأنواع الحرمان والاحباطات والصراعات والذي يشعر فيه الفرد بنقص الأمن وبعدم الأمان.
كما أن التنافس الشديد بين الناس وعدم المساواة والاضطهاد والاستغلال وعدم اشباع حاجات الفرد ويضاف الى ذلك وسائل الاعلام الخاطئة غير الموجهة والتي تؤثِّر تأثيراً سيئاً في عملية التنشئة الاجتماعية.
كل هذه الأسباب الى جانب أسباب أخرى تدفع الفرد الذي يعيش في مثل هذا المجتمع المريض الى سوء التوافق الاجتماعي بحيث يكون السلوك المريض والشيخوخة المبكرة وغير السوية، النتاج المتوقع لهذه المساوئ.
يقول جليل وديع شكور في كتابه «أمراض المجتمع» من المعروف أن تدني الحالة الاقتصادية لأية عائلة لا يسمح بتلبية جميع متطلباتها، وتلعب البطالة وفقدان المواد الأولية دوراً فاعلا في هذا التدني.
وفي هذا المجال، وجد سالوس في دراسة له على الاحياء البائسة والمعدمة اقتصادياً أن العوز المادي ليس كافياً بمفردة لتفسير الانحراف، فهناك متغيرات «خمسة تميّز عائلات المنحرفين: غياب الأب، وسوء تفاهم الوالدين والبطالة وعدم الاستقرار المهني، والادمان الكحولي في الأسرة، والماضي الجانح لأحد الوالدين.
وقد أظهرت الدراسة التي أعدتها الامانة العامة للأمم المتحدة عن الوقاية من جناح الاحداث ان الزيادة في حجم جناح الأحداث أكثر تواجداً في البلاد التي بلغت حداً كبيراً من النمو عنها في البلاد الآخذة في هذا النمو، وأن التغييرات الاقتصادية والصناعية الجديدة في البلاد الآخذة في النمو ذات أثر مباشر على تزايد جناح الأحداث.
والجدير ذكره أن عمليات النمو والتحضر قد لا تكون السبب المباشر في الانحراف، إنما ما يرافق ذلك أو يترتب عنه كالتفكك الذي يصيب الاسرة من جراء ذلك أو سوء التكيف الذي يصيب النازحين من الريف الى المدينة بحثاً عن العمل أو التعارض في القيم بين قيم الواقع وبين ما يرجى ان يكون.
كل ذلك يشكِّل ضغوطا على الناشئة لتساعد على ظهور الانحراف أو تعجل في ظهوره.
ومن الاسباب التي تضاف الى ذلك التضخم المالي وغلاء أسعار المواد الاستهلاكية أو احتكارها.
إنّ هذه الاسباب تسهم في سوء الحالة الاقتصادية التي تنعكس مرضا اجتماعيا متمثلا بالقلق والخوف على المصير.
كما أن سوء الوضع الاقتصادي قد يدفع بالعديد الى ممارسة بعض أنواع السلوك الممنوع أو المرفوض اجتماعياً كأعمال الغش والتزوير والاتجار بالمخدرات وقبول الرشوة والسرقة والاحتيال.
لذا يرى رجال الاقتصاد وعلماؤه ان أسباب الانحراف الاجتماعي تكمن في سوء الحالة الاقتصادية المتمثلة بمشكلات تعود إلى الفقر والبطالة والفشل الناتج عن سوء التوافق المهني.
في هذا المجال، فإن بعض الاقتصاديين يربط بين الانحراف والفقر معتبراً إياه السبب الأول مستشهدين على ذلك بأن غالبية نزلاء السجون من أصل فقير، كما أن الفقر يولِّد العديد من المشكلات الحياتية المتعلقة بالصحة والسكن والتعليم وتوزان الأسرة، والتي تولد الانحراف.
وعلى العكس من ذلك، يعتبر اقتصاديون آخرون أن الغنى والرخاء هما سبب ازدياد حالات الانحراف، ويصدق ذلك في البلاد المتقدمة صناعيا، حيث نرى ازدياداً لعدد الأحداث الجانحين.
والمعترضون على ربط الانحراف بالفقر يشيرون الى ان الاحصاءات تكون عادة مضللة لاسباب عديدة منها: أن معظم جنح الاغنياء تبقى خفية أو تسوى قبل أن تصل الى المحاكم، كما أن الفقراء لا يتمتعون عادة بوسائل الحماية التي تتوفر للاغنياء، وأيضا لأن الفقراء هم أكثر الناس تعرضا للملاحقة وسوء الظن.
وإذا كان الفقر سبباً للانحراف، فكيف يمكن تفسير التصرفات غير المشروعة والمنحرفة التي تكثر في أوساط رجال الاعمال، كما هو معروف للجميع؟!
وأمام هذا التناقض يمكننا القول ان الفقر بوجوهه المتعددة قد يشكل ظروفا أو مناخات مهيئة للانحراف، أو على الاقل فرصا تسهل للسلوك الجانح احتمال حدوثه.
إنّ مهمة الباحث النفسي والاجتماعي وبعد تزايد الاهتمام بالفرد والاخذ في الاعتبار البعد الانساني ليست في إدانة المنحرف واصدار الحكم عليه، بل البحث في ظروف الانحراف وفي أسباب هذا العمل المرفوض، الى جانب البحث الجدي والمعمق في شخصية المنحرف لمساعدته على اعادة النظر في سلوكه وفي تغيير مواقفه الخاطئة.
وعلاج الامراض الاجتماعية يحتاج إلى فريق عمل يضم على الأقل: طبيباً نفسياً، ومرشداً اجتماعياً، ومرشداً دراسياً ومهنياً.
وتبرز أهم ملامح علاج سلوك المنحرفين فيما يلي:
1 استثارة تعاون المريض واثارة رغبته في العلاج.
2 محاولة تصحيح السلوك المنحرف وتعديل مفهوم الذات.
3 ارشاد الوالدين وتوجيههما لتحمل مسؤولية العمل على تجنب الطفل التعرض للأزمات النفسية والاجتماعية.
4 تغيير السلوك داخل المنزل وشغل أوقات الفراغ بالترفيع المناسب والرياضة.
5 إنشاء المزيد من العيادات النفسية المتخصصة لعلاج الامراض النفسية والاجتماعية.
إضافة الى تضافر العلاج السلوكي، والعلاج الطبي، والعلاج النفسي للشخص المنحرف.
إن مجتمعا تكثر فيه الأمراض الاجتماعية: العنف، والجريمة، والإدمان، والانحرافات الجنسية، واستغلال الطفولة...، سيكون هو حتما مريضا وبحاجة الى إعادة تنظيم من خلال تفعيل الرعاية الاجتماعية، وتأمين الاحتياجات الخاصة بالفرد، وبالمجتمع، تأميناً لحالات الاكتفاء والاشباع.
باختصار، إننا مدعوون أفراداً وجماعات ومؤسسات حكومية وخاصة، الى اقتسام المسؤوليات كلٌّ من زاويته الخاصة وبقدراته المتاحة وإلى توزيع الأدوار، بحيث نضمن النجاح والتكامل.