* ـ روى الطبراني في معجمه الأوسط وحسنة الألباني عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات. فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه .. وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام)).
ـ ما أجمع هذا الحديث وما أعظمه، ولذا كان حريًّا بكل مسلم أن يتأمله ويتدبره ويسعى جاهدًا للنجاة من تلك المهلكات والظفر بالثلاث المنجيات والمبادرة إلى تلك الكفارات والترقي في تلك الدرجات.
ـ الثلاث المهلكات أولها شح مطاع، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشح في أحاديث كثيرة، منها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلي الله علية وسلم قال : ((إياكم والشح؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) الحديث، بل لقد عده النبي صلي الله علية وسلم من الكبائر المهلكة، ففي حديث أبي هريرة في سنن النسائي أنه صلي الله علية وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال: ((الشرك والشح وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)) الحديث.
ولسوء هذا الخلق وخبثه فإنه إذا تشبّعت به النفوس فتسوّغ حينئذٍ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني قال رسول الله صلي الله علية وسلم : ((حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام)) رواه الترمذي.
وهو من شر الخلال التي يتصف بها رجل، ففي سنن أبي داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلي الله علية وسلم يقول : ((شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع)).
ولذا كان من الأخلاق التي تفشو في آخر الزمان، في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله علية وسلم قال : ((يتقارب الزمان وينقص العمل ويلقى الشح)) الحديث، ولذلك أيضًا كانت الصدقة أعظم أجرًا في حال الشح لأن الإنسان يغالب شح نفسه، جاء رجل إلى رسول الله صلي الله علية وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى)) الحديث .. متفق عليه.
قال ابن القيم رحمه الله : "الشح شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبّه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره، وذلك هو المفلح، قال الله تعالى : ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر:9]".
* ـ ثاني هذه الثلاث المهلكات هوى متبع، وتلك صفة أخرى ذميمة قد تضافرت على ذمها والتحذير منها نصوص الكتاب والسنة، وما ضل من ضل عن سبيل الرشاد والهداية وأوغل في سبيل الضلال والغواية إلا وكان الهوى العامل الأساس في ذلك، وقد جاء ذم الهوى في القرآن الكريم في أربع عشرين موضعًا، منها قوله تعالى : ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) [الأنعام:119]، وقوله : ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ ) [القصص:50]، وقوله جل شأنه : ( بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) [الروم:29]. وكل من ردَّ الحق ورفضه بغير برهان فإن به شبهًا بأعداء الله اليهود، وبئس المتشبّه به، قال الله حاكيًا حالهم: ( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ) [البقرة:87]، وقال تعالى : ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) [المائدة:70].
بل إن الهوى ليتمادى بصاحبه ويتمكن منه حتى يعسر عليه تركه، جاء في حديث معاوية في ذكر الفرق الضالة في هذه الأمة أنه صلي الله علية وسلم : (( وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) خرجه أبو داود. بل أيها الإخوة، قد يصل به الأمر أن يكون عبدًا لهواه من دون الله، قال تعالى: ( أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) [الفرقان:43]، قال قتادة رضي الله عنه : "إن الرجل إذا كان كلما هوي شيئًا ركبه وكلما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى فقد اتخذ إلهه هواه".
ولذلك كان من أخوف ما كان يخافه النبي صلي الله علية وسلم على أمته، في مسند الإمام أحمد عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله علية وسلم قال : ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى))، ولذلك أيضًا كان صلي الله علية وسلم يدعو فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء)) رواه الترمذي. قال الشافعي رحمه الله : "لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيءٍ من الأهواء".
وقد تضافرت أقوال السلف في التحذير من أهل الأهواء الذين يخدعون الناس بمعسول القول وفصيح الكلام، قال ابن عباس رضي الله عنه : (لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلوب)، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله : "لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب وتسلب محاسن الوجوه وتورث البغضة في قلوب المؤمنين"، قال الحسن البصري رحمه الل ه: "لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم"، وقال أبو قِلابة رحمه الله : "لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون".
ولذلك فالحذر الحذر من الأهواء التي أصبحت تبثّ في هذه الأيام ويدعى الناس لها عبر كثير من وسائل الإعلام المرئية منها والمقروءة والمسموعة.
قال ابن رجب رحمه الله : "إن جميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وكذلك البدع تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب، فيجب عليه حينئذٍ التوبة من ذلك والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول صلي الله علية وسلم من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها كلِّها" اهـ كلامه رحمه الله.
* ـ ثالث هذه الخصال المهلكة المذكورة في الحديث إعجاب المرء بنفسه، وهو يورث الكبر الباطن الذي يثمر التكبر الظاهر في الأعمال والأقوال والأحوال، وهو يدعو صاحبه إلى نسيان التوبة من الذنوب، ويجعل صاحبه يستعظم العبادات والأعمال ويمن على الله بفعلها، والمعجَب بنفسه ورأيه يأمن مكر الله وعذابَه.
ومن أعظم آفات العجب فتور السعي في الأعمال الصالحة لظن صاحبه أنه قد فاز واستغنى، وهذا هو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه.
والعجب بالنفس يودي بصاحبه إلى الكبر، وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال صلي الله علية وسلم : ((ما يزال الرجل يذهب بنفسه ـ أي: يترفع ويعجب بها ـ حتى يكتب في الجبارين، فيصيبُه ما أصابهم)) رواه الترمذي، وقال صلي الله علية وسلم : ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مُرَجِّلٌ جُمَّتَه إذ خسف الله به، فهو يتجلجل ـ أي: يسوخ في الأرض ـ إلى يوم القيامة)) رواه أبو داود والترمذي، قال الأحنف بن قيس : "عجبًا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين".
ويكفي في ذمه أنه يشبه في ذلك إبليس لعنه الله الذي قال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، ومن عواقبه وسوء مغبته أن صاحبه لا يوّفق للخير، بل يصرف عنه، قال تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) [الأعراف:146]، وكم حال الكبر بين صاحبه وبين الحق، قال تعالى : ( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [الجاثية:7، 8]، ولذلك كان العجب والكبر سببًا للطرد من الجنة ودخول النار عياذًا بالله، قال تعالى في حق إبليس : ( قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) [الأعراف:13]، وقال تعالى مخاطبًا الكفار : ( فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) [النحل:29]، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله علية وسلم قال : ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولُسَ، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)) رواه الترمذي وهو حديث حسن .