* ـ إن كل إساءة تقابل بالإحسان سوف يكون له الأثر الطيب في محو أثرها ، ومعالجة ما أحدثته من صدع وجفاء ومن أجل ذلك وجه رب العزة عباده إلى إتباع السيئة بالحسنة فقال عز من قائل : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) ، وقال أيضًا : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ، ولقد جاء في تفسيرها إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك ، ومقابلة السيئة بالحسنة مرتبة عظيمة لا يرتقي إليها من عباد الله إلا من امتلك زمام نفسه وقسرها على ذلك .. إذ فيه خيره وسعادته في الآجلة والعاجلة وصلاح مجتمعه .. ولقد تركز في النفوس غريزة حب الانتقام والتشفي والانتصار للنفس ، فمن خالف هواه وأخذ بتوجيه مولاه وقابل السيئة بالحسنة دخل في إطار من ارتفع به رب العزة إذ يقول في معرض المدح والإشادة ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ) أي : ما يرتقي إلى هذه المرتبة العظيمة إلا من صبر على كظم الغيظ واحتمال المكروه ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) أي : ذو حظ وافر من السعادة في الدنيا والآخرة .
أما السعادة في الدنيا فبائتلاف القلوب على محبة صاحب هذا الخلق العظيم ورعاية مصالحه والعطف عليه ؛ فلا يكاد يجد له عدوا يكيد له أو يتربص به الدوائر ، وتلك سعادة يحلم بها كل من عاش على الغبراء في قطع مرحلة الحياة .
أما السعادة في الآخرة فلقد فسر بعض السلف الحظ العظيم في الآية بالجنة أي لا يرتقي إلى هذا الخلق العظيم إلا من وجبت له الجنة وحسبكم يا عباد الله بالجنة غاية كريمة وسعادة ، وصفها الرب الكريم بعد أن عرض صفات المحسنين وما تخلقوا به من الخلق العظيم فقال ( أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ).
ومن أخلاق الرسول السماحة والعفو، روى البخاري ومسلم عن جابر ( أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- قِبَل نجد، فلما قفل رسول الله قفل معهم، فأدركتهم القائلة - أي نوم القيلولة ظهراً ـ في واد كثير الشجر ـ فنزل رسول الله وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله تحت سمرة فعلق بها سيفه، ونمنا نومة؛ فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال : إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً ـ أي جاهزاً للضرب ـ فقال: من يمنعك مني؟ قلت : الله، ثلاثاً ، ولم يعاقبه وجلس .. وفي رواية أخرى : " فسقط من يده فأخذ رسول الله السيف ، فقال للأعرابي "من يمنعك مني؟" فقال : كن خير آخذ، فقال صلى الله عليه وسلم : " تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قال : لا، ولكني أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى الرجل أصحابه فقال لهم : جئتكم من عند خير الناس!) فهذا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عفا عن الرجل في موقف حرج يدل على شجاعته .. لذا كان أفضل العفو عند المقدرة.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني -نوع من اللباس- غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم- وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء!.
إنها أخلاق نبي الإسلام ورحمة هذا الدين ! وكم في ضحكة الرسول في وجه الأعرابي الجاهل من معنى يفهمه أهل الذوق الرفيع . وهذا أبو حنيفة رحمه الله مع جاره اليهودي الذي آذاه بفتح بيت الخلاء عليه ليؤذيه بالرائحة الكريهة ، فصبر الإمام أبو حنيفة عليه خمسة عشر عاما أداء لحق الجوار ، مع أنه قادر بكلمة واحدة لأمير المؤمنين أن ينتقم من هذا اليهودي شر انتقام ، وكان أن مرض أبو حنيفة فزاره اليهودي من جملة من زاره ، وقد تعمد أن يضع يده على أنفه إظهارا للاستياء مما يشم ، وبعد أن جلس عند أبي حنيفة ، قال له : منذ متى وهذه الرائحة الكريهة عندكم ؟ فقال : منذ جاورتنا ، منذ خمسة عشر عاما .. فقال اليهودي : وقد صبرت من ذلك التاريخ ؟ قال : نعم .. لأن ديننا يأمرنا بحسن الجوار .. فبهت اليهودي ، ثم قال : دين هذه أخلاق علمائه فإنه خير دين ، أشهدك أنني أسلمت ، ونطق بالشهادتين .
وعلى العكس من صاحب هذا الخلق الكريم نجد الفاحش البذيء الذي يتقيه الناس لفحشه وسلاطة لسانه وطعنه فيهم وهمزه ولمزه لهم .. إنه لا يستقيم له أمر ولا يصفو له وداد ولا ينطوي على حبه قلب أو ينهض لرعاية مصالحه أو الذب عنه بعيد ولا قريب فيخسر بذلك دنياه إذ يقطع مرحلة الحياة منبوذًا من المجتمع بالإضافة إلى خسارة عقباه ، لقد ورد في الحديث من الوعيد الصارخ لهذا الصنف من الناس في أي وضع يكون فيه بين المجتمع سيدًا أو مسودًا من العظماء أم من الدهماء قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إن من شرار الخلق منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه » ، وفي رواية أخرى « اتقاء شره » وفي حديث آخر « إن الله يبغض الفاحش البذيء الذي يتكلم بالفحش » ، وفي حديث آخر يشرح فيه رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقع المفلس فيقول : « المفلس من أمتي من جاء يوم القيامة بصلاة وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار » .وحسبكم بذلك يا عباد الله خسارة ليس لها من تعويض ، فاتقوا الله عباد الله وحذار من التجني على عباد الله في أي لون من ألوان التجني ففي ذلك فساد العاجلة والآجلة ، وقابلوا كل إساءة بإحسان مستشرفين لبلوغ الفضل في ذلك الذي يحفز إليه الملك الديان إذ يقول : ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .