أسباب بروز هذه الظاهرة :
I- العمل النفسي : من العوامل النفسية والمشجعة لهذا النشاط أن المرحلة التي يقدم فيها هؤلاء الأطفال على هذا العمل هي المرحلة التي تتشكل فيها الميول والاتجاهات مع بروز أزمة الذات التي تصحبها أسئلة عدة تتعلق بمستقبل الطفل المهني ،وهذه الأسئلة الملحة تتطلب الأجوبة التي لا يجدها في البيت أو المدرسة لانعدام المساعدة النفسية والتوجيه التربوي ،ولذلك فإن ذوي الميول التجاري يجدون مبتغاهم في هذه الحرفة ، وسرعان ما يتحول هذا الإقبال إلى إشباع ينتهي بالكفل إلى حالة الكف عن البحث عن الذات وهذا لأن تجارة السجائر ترتبط بمجموع الممارسات والسلوكيات التجارية يتقمص فيها الطفل شخصية التجار فينغمس في عالم يضفي إلى من خيالاته مما يجعله يركن إلى هذه المهنة وهذا رغم حالات من القلق التي تنتابه والمتمثلة في تناقض رغبتين ، فهو من جهة يجد عزاءه في هذه التجارة ومن جهة أخرى يطمح ويتطلع إلى مستقبل زاهر يعيش فيه عالم طفولته التي اغتصبت منه ، لكن الظروف الاجتماعية والثقافية تجعله ييأس من تحقيق هذا الأمل فينكب على ممارسة بيع السجائر التي سجل بها مرور إلى الأمام من واقعه المزري ، ولكي يكتمل هذا العالم تعمد هذه الشريحة إلى تعميق وتوسيع هذه الدائرة التجارية البسيطة في واقعها وذلك بأن تنسج حولها عالما خصا بها متميز بثقافة خاصة وللتدليل على ذلك يكفينا مطالعة قاموس هؤلاء الأطفال التجاري والقانوني الذي ينظم هذه التجارة فالتقاليد المتعارف بها بين هذه الشريحة كعدم التعدي على المجال الجغرافي التجاري للآخرين أو عدم التعدي على الإختصاص في نوعية السلعة المباعة ، بالإضافة التي يلتزم بها البائع إزاء المشترين ، كل هذا يجعل من هذه التجارة كأنها ردود أفعال سبقت بمجموعة من المثيرات الشرطية ، كالتواجد في زمان معين ومكان معين حتى يلبي حاجيات مشتريه الذي يتلقى منهم مكافأة مشجعة على التشبث بهذه التجارة ، وهو ما يحمل على الاعتقاد أنه تاجر كبير ، يجب أن يحافظ بكل ما عنده على الاستقرار في هذه التجارة وكأن هناك ولع داخلي يشده إلى هذه النشاط ، وكل هذه العوامل النفسية تساعد على الارتباط بهذه الحرفة لأنه تكون لديه مبررات انعكاسية ومشجعات لا شعورية تدفع إلى التمسك بتجارة السجائر .
II- العامل الاجتماعي :
المجتمع الجزائري يلعب دورا كبيرا في تشجيع هذه الظاهرة ذلك أن معظم هؤلاء المتعاملين مع هؤلاء الأطفال سواء كانوا زبائن أو ممولين وهذا ما دلت نسبة المشترين والبائعين الكبار ، وتدعم العائلة وذلك باستعمال مداخيل أبنائهم في مصروف البيت ، ولا أعتقد أن مجتمعنا الذي لم ينته عند حد اللامبالاة بغزو هذه الظاهرة للقيمة الثقافية بل عمل تشجيعها بكل وسائله .
إن المشكلات التي يعاني منها المجتمع الجزائري جعلته لا يلتفت إلى هذه الظاهرة وهو مشغول بالحديث عن المشكلات الكبرى التي تتعلق به مباشرة ، وهو مازاد في تشجيع هذه الظاهرة بالإضافة إلى البطالة وقلة المؤسسات المهنية التي تستقبل هؤلاء الأطفال ، وفي هذا الصدد لا ننسى العامل الاقتصادي المتمثل في صناعة التبغ .
ج- العامل التربوي :
من العوامل التي هيأت لظهور وانتشار هذه الفئة من الأطفال المتاجرة في السجائر هو المدرسة التي أنشأت بذور انتشت في هذا الوسط الاجتماعي الذي هيأ لها كل الظروف المواتية لاستفحال هذه الظاهرة ، فهذه الشريحة لم تتلق حصانة وتلقيحا تربويا ضد هذه السلوكيات ، ثم أن الصمت يعتبر كتزكية لهؤلاء الأطفال التجار ، فبرنامج المدرسة الأساسية ليس فيه من الأهداف التربوية الاجتماعية التي تخلص الطفل من أشكال هذه الظاهرة ، اللهم إذا كانت مبادرات فردية من بعض الأساتذة الذين نوهوا بخطورة هذه الظاهرة ، وحتى هذه المبادرات يغلب عليها طابع السطحية فهي في حاجة إلى دراسة وتدعيم ، حتى يكون لها صدى وأثر في الفئات المتمدرسة .
وهناك عامل أكثر خطورة وهو تزكية الكبار لهذا النشاط عندما يقارنونه بأعمال أخرى قد تكون مخلة بالآداب وبهذا يكون عند هؤلاء من الأفضل أن يمارس الطفل هذه التجارة التي تعده لمستقبل تجاري عوض أن يتجه لمسح الأحذية ، وهو لايعلمون أن الشر يبقى دائما شرا مهما كان الشكل الذي يأخذه .
أبعاد هذه الظاهرة وأخطارها :
الربح السهل الذي تعودت عليه هذه الفئة يقتل فيها كل روح تنزع إلى المبادرة وينتهون إلى الاتكال وعدم التفكير في مزاولة أي تكوين أو أي نشاط عقلي أو فكري فني فلقد اكتفى بالذي بين يديه وما يربحه لا يمكن أن يجده في مهنة أخرى وبهذا تكون هذه الفئة عالة على المجتمع اجتماعيا واقتصاديا .
إن هذه الحرفة تفتح على كل المخاطر والإنحرافات فما دلت عليه الدراسات أن 76% أطفال التجار للسجائر مدخنون وهذه أول بادرة من بوادر الانحراف ، زد على ذلك فإن الربح الكثير السهل يفتح شهيتهم فيطمحون إلى المزيد وهذا يدفع بهم إلى التجارة في أمور هي في عداد المحظورات .
إن الأدهى والأمر أن هذه الشريحة هي عساكر تعد لعالم " التراباندو " وذلك لأن معظمهم يحلم لأن يكون غنيا في المستقبل ولهم في ذلك حكايات يتدالونها عن أناس وصلوا قمة الغنى من خلال تجارة التجارة في السجائر ، ومن هنا فإنهم يصرون على أن يكونوا مثلهم وكم في هذا الإصرار من أخطار.
وهناك جانب أكثر خطورة يتمثل في الإشعاع الثقافي لهؤلاء ، فهم يبنون ثقافة سامة مؤثرة على الأطفال الذين لا يزالون يزاولون دراستهم ، حيث ينشرون بينهم فكرة " المستقبل في هذه البلاد للتجارة وليس للعلم " وعليه يجب على الإنسان الفطن لنفسه أن ينتبه لهذا الأمر وينقذ نفسه بأن يغادر مقاعد التجارة ، ويتخذ أي شكل من أشكال العمل التجاري ، وفعلا فقد كان لهذه الفكرة القاتلة صدى عند الأطفال المتمدرسين وفيهم من تأثر بهم وعمل بنصيحتهم .
وأخيرا ، ولتعميم الفائدة وتدارك خطورة الوضع نوحي بمايلي :
- تعميم دراسة لهذا الموضوع على مستوى القطر .
- أن تشمل هذه الدراسة كل النشاطات التجارية التي يمارسها الأطفال .
- أن تتظافر جهود الباحثين في علم النفس والتربية وعلم الاجتماع ولاقتصاد لدراسة هذه الظاهرة واقتراح العلاج الشافي لها .
- أن تكون هناك أيام دراسية وندوات تبحث في عمل الأطفال والتجارة عندهم .
- وأخيرا نقترح أو نوصي بأن تكون قرارات سياسية جادة تتكفل لهؤلاء الأطفال مثل الذي حدث بعد الاستقلال بالنسبة للأطفال ماسحي الأحذية .