ماهية الخصوصية الثقافية
شغلت ماهية "الخصوصية الثقافية" محورا مهما في المؤتمر، وتناولت المفهوم عدة أبحاث منها ورقة الدكتور "معتز بالله عبد الفتاح" بعنوان "قراءات في مؤشرات الخصوصية الثقافية"، حيث رأى أن الخصوصية تعني التمايز عن الآخر والاتصاف بملامح ذاتية تختلف عنه، وبهذا المعنى فإن الخصوصية ليست مفهوما محليا، بل إن المفهوم نفسه عالمي؛ إذ لكل جماعة بشرية مثقفة رؤيتها الذاتية وخصوصيتها.
ورأى أن مفهوم الخصوصية الثقافية يتحدد من خلال خمسة أسئلة رئيسة هي:
سؤال الهوية: حيث يسعى الفرد إلى تعريف ذاته وانتماءاته على أساس القطر أو اللغة أو الديانة... إلخ.
سؤال التراث: ويتضمن التساؤل عن أبرز الرموز التاريخية التي يستعيدها الأفراد ويعتزون بها، وهل يتم التمسك بالتراث باعتباره أحد مكونات الهوية، أم يتم التخلص منه باعتباره عبئا ثقيلا.
سؤال الواقع: وهو تساؤل الأمم عن واقعها المعيش، وعن مدى تخلفها أو تقدمها عن بقية الأمم ومعيار ذلك التقدم أو التخلف.
سؤال الفرصة البديلة: ويتعلق بالخيارات المطروحة، ومدى التعارض بينها، وهو يطرح قضية البدائل المتنافسة.
سؤال المستقبل: ويتعلق بتأثير هذا الاستيراد الثقافي من الآخر على الهوية، فهو يطرح كرد فعل لكافة الأسئلة السابقة، حيث يحاول البحث في اتصال القضايا السابقة بعضها ببعض وكيف تؤثر في النهاية على سؤال الهوية.
شمولية الاتصال...خصوصية الثقافة
1- ثمة بين الاتصال والثقافة من عناصر الالتقاء والتكامل أكثر مما بينهما من مكونات الجفاء والاختلاف. فالثقافة ستنحصر وتركد لا محالة إن هي لم تتكئ على وسائل للاتصال تضمن لها الذيوع والانتشار، والاتصال بدوره سيبقى دون جدوى تذكر إذا لم توافيه الثقافة بالمعلومات والمعارف والمضامين.
لا ينحصر الأمر في استوظاف الثقافة لوسائل الاتصال بغاية كسر طوق العزلة وضيق السعة، ولا في لجوء وسائل الاتصال للثقافة لتجاوز بعدها الأدواتي الخالص، بل يتعدى ذلك ليطال طبيعة كليهما وآليات تصريف الخطاب لدى كل منهما وكذا المرجعية التي تحكم مسار كل واحدة منهما.
ولئن كانت الثورة التكنولوجية للعقود الثلاثة الأخيرة قد أثرت حقل الإعلام والمعلومات والاتصال أدوات ومضامينا، فإنها وإن بوتيرة أقل قد ساعدت إن لم يكن في إنتاج المعارف والرموز فعلى الأقل في طرق وأنماط تنقلها وتداولها بين الأفراد والجماعات.
وعلى هذا الأساس، فشمولية الاتصال (ممثلة أساسا في انفجار الشبكات المعلوماتية وتكاثر الأقمار الصناعية وفورة التلفزة العابرة للحدود وغيرها) لم تزح (ولا يمكن لها بأي حال أن تزيح) عن الثقافة (عن الثقافات أعني) ما يميزها ويكون خصوصيتها، بقدر ما أصبح بإمكانها العمل بجهة توسيع فضاء إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها.
ومعنى هذا أنه لو كان لشمولية الاتصال أن تفعل في الخصوصية الثقافية بجهة من الجهات، فلن يكون لها ذلك إلا بقدر قابلية ذات الخصوصية وتجاوبها مع الشمولية إياها و قدرتها على ذلك.
ومعناه أيضا أن ما يسمى منذ مدة بالتكنولوجيات الثقافية لا يخرج عن هذا السياق، سياق التجاوب بين شمولية الاتصال وخصوصيات المجال الثقافي.
2- والواقع أن العلاقة بين شمولية الاتصال وخصوصية الثقافة لا تنحصر فقط في جانب التجاوب المشار إليه، بل تتعداه إلى آليات من الارتباط جديدة/متجددة إن لم تكن موحدة لاتجاه مسارهما، فهي تدفع بالتأكيد بجهة التفاعل والتأثير في بعضهما البعض.
هناك، فيما يبدو، ثلاثة مظاهر كبرى تستجلي ذلك وتؤكده:
- المظهر الأول وتتغيأ شمولية الاتصال من خلاله إبراز الخصوصيات الثقافية وتقييمها على نطاق واسع على نقيض عهود حالت وسائل النقل والإعلام والاتصال دون تنقل المعطيات والرموز خارج الفضاء الواحد بسبب ارتفاع الكلفة أو ضعف التجهيزات.
لا يروم التلميح هنا إلى ما للبث عبر الأقمار الصناعية من امتيازات ولا ما للمتعدد الأقطاب من فضل بل وكذلك ما لشبكة الإنترنيت من عطاءات لم يكن تداول الثقافة من قبلها جميعا يتعدى أبناء الفضاء الضيق الواحد أو في أحسن الأحوال الفضاءات المجاورة مباشرة.
ولئن كانت الأقمار الصناعية قد ساهمت بعمق في تدفق المضامين الثقافية (على الأقل بالقياس إلى عدد القنوات الفضائية ذات الطبيعة الثقافية والتربوية والعلمية وغيرها)، فإن شبكة الإنترنيت لم تفتأ بدورها تساهم في بلوغ مكتبات ومعاهد ومتاحف ومراكز بحوث وجامعات ودور نشر لطالما حالت "الندرة التكنولوجية" دون بلوغها أو معرفتها حتى.
لا نعتقد في المطلق أن بلوغ الثقافات المحلية أو الوطنية شبكات الإعلام والاتصال الكبرى يمنحها صفة "العالمية" أو القدرة على الفعل المباشر في الثقافات الأخرى، لكنه يمنحها دون شك سبل "وضعها على المحك" مع الثقافات الأخرى ويوفر لها وإن على المدى الطويل إمكانيات للتعارف والتلاقح.
- المظهر الثاني (في امتداد للأول) ونعتقد في خضمه أن شمولية الاتصال لا تدفع فقط بجهة تقييم الثقافات المحلية أو الوطنية، بل وأيضا بجهة إفراز خصوصيات بقيت لعهود طويلة لصيقة بفضائها ومحيطها المباشر.
ليس المقصود هنا عملية الموسطة التي منحتها تكنولوجيا الاتصال لخصوصيات أفرزتها الحروب (في البلقان كما بإفريقيا كما بغيرها)، ولكن أيضا الحق في خلق قنوات فضائية تتحدث بلغة ذات الخصوصيات (الأكراد ضمن أقليات أخرى) أو خلق مواقع بالإنترنيت تعتمد اللغة إياها حتى وإن كان زوار ذات المواقع هامشيون كحال الطوائف مثلا أو غيرها.
والمقصود هنا باختصار أن شمولية الاتصال قد منحت الخصوصيات الثقافية فرصا للبروز بعدما كانت الثقافات الطاغية قد أوشكت على طمس معالمها الكبرى.
- المظهر الثالث ويتجلى لنا بالأساس في قدرة شمولية الاتصال على إفراز صناعات ثقافية لخصوصيات تبقى محلية في غياب الوسائل والأدوات إياها.
ليس التلميح هنا فقط إلى الأقراص المدمجة المتضمنة للعديد من مآثر وطقوس وتمثلات ذات الخصوصيات ولا إلى شيوع العديد من الرموز الثقافية المنحصرة التأثير إلى حين عهد قريب، ولكن أيضا إلى انتشار المواقع بالإنترنيت تتغيأ التعريف بذات الخصوصيات والدفع بتميزها وإن كان لمجرد التميز من أجل التميز أو هكذا يبدو أحيانا.
ولئن كان من شبه القار أن مد العولمة المتسارع منذ ثمانينات القرن الماضي قد أدى إلى اتجاه العديد من الخصوصيات إلى التقوقع والانغلاق ورفض الآخر (جراء المد التنميطي المتزايد)، فإن العديد من الخصوصيات الثقافية قد سارعت إلى مواجهة ذات المد عبر لجوئها لما توفره تكنولوجيا الاتصال من سبل وإمكانات وأيضا عبر تمكنها من تملكها والنجاح في موطنتها.
والسر في ذلك لا يكمن فقط في خصوصية القيم التي تجاوبت مع ذات التكنولوجيا (أو تفوقها على ما سواها من قيم) ولكن لربما هو كامن في قدرة أصحاب القرار على إنجاح ما يمكن تسميته ب "التقاطعات" بين التقني والثقافي على خلفية من السيادة الضمنية للمرجعية الثقافية الأصل. وهو أمر تكفي دولة كماليزيا أو الهند أو العديد من "الجيوب التكنولوجية" بدول أمريكا اللاتينية لتبيانه.
3- إذا كانت شمولية الاتصال قد "مدت يد العون" للثقافات الوطنية قصد تبيان تميزها عن بعضها البعض وإبراز أوجه الخصوصية التي تطبعها، فإنها بالمقابل (وعلى النقيض من ذلك) قد ساهمت وإلى حد ما في تقويض بعض من أسسها أو المس ببعض من مميزاتها.