تمهيد
يمثل الرمز في الأدب الحديث أهمية كبرى قد لا تقل عن الخيال المحلق ، ويجب التفريق بين الرمز كأداة لتوصيل الفكرة بمعنى واسع وبين الأساطير كفكرة للنص ، فتوظيف الرمز في النص الأدبي التوظيف المناسب يعطي النص بعداً أرحب وحركة فاعلة في كلماته ودلالاته ، يجتاز الحاضر إلى الماضي في تناسق وتناغم بديع متى ما أحُسن اختيار الرمز المعبر عن الفكرة التي يطرحها النص ، ويحفل تاريخنا الإسلامي على عدد هائل من المواقف والشخصيات والمعارك والمدن والأمكنة الذي يشكل كل واحد منها رمزا أدبيا ذا دلالة لا تقل روعة عن التطبيقات البلاغية الأخرى .
ولننظر مثلا إلى أعظم شخصية عرفها التاريخ البشري خير ولد آدم أجمعين محمد – صلى الله عليه وسلم – و لننظر إلى الجيل الفريد جيل الصحابة رضوان الله عليهم – ومن بعدهم من التابعين والعلماء والقادة العظام ألا يمثلون لنا هؤلاء رموزاً حية دفاقة بالعطاء تثري أعمالنا ونحاول بث أنفاسهم في إنتاجنا الأدبي ، ولننظر إلى الغار غار حراء أو غار ثور – ألا يمكن أن يمثل لنا رمزاً فياضاً بالعديد من المواقف والأحداث والصور المعبرة ، وهناك الهجرة النبوية تلك النقلة المباركة العظيمة ، وهناك المعارك الإسلامية الخالدة – بدر ، أحد ، الخندق ، خيبر ، اليرموك ، حطين ، عين جالوت ، وغيرها الكثير – ألا تصلح كل مفردة منها لتمثل رمزاً أدبياً له جذوره ومدلوله في تاريخنا ومسيرتنا ، بل وعقيدتنا .
- عندما نقرأ نصاً أدبياً فأننا نقيّم هذا النص من حيث المضمون والشكل، وكلا العنصرين مرتبطين ببعضهما ارتباطاً عضوياً فالشكل هو سبيلنا لفهم المعنى (المضمون ) لذلك فلا بد لنا من معرفة أبعاد هذا الشكل لنفهم المعنى الذي يقصده الشاعر كما هو وقد كثر النقاش حول بعض الألفاظ التي يستخدمها بعض الشعراء الحداثيين في نصوصهم الأدبية، كلفظ الجلاله(الله)<!--break-->
الذي قد يخرجه المعنى الشعري عن معناه المعتاد كما يقول الحداثيون، وفي الجهة الأخرى نجد اعتراضاً يبديه البعض الأخر على هذه الألفاظ ويعتبرها تطاولاً على الذات المقدسة وقلة أدب مع الله...، فهل نتفق نحن البشر على فهم واحد لله وهل نتفق نحن كمسلمين داخل دائرة الإسلام في فهم الله، فهنالك من يفهم الله بأنه الرب المطلق الذي ليس كمثله شيء، ومنهم من يفهمه بأنه الرب الذي ينزل للسماء الدنيا على حمار أسود في هيئة البشر...، ولا يوجد فهم واحد لله كما أن هناك من المسلمين من يفهم القرآن حرفياً- وهذه المشكلة نراها مع الشعر الذي هو أدب وبلاغة لفظية- فيثبت لله بعض الصفات التي وصف نفسه بها وهي صفات بشرية كالسمع والبصر واليد، ومنهم من يؤوّل هذه الصفات حسب سياق النص الذي جاءت فيه والقرآن معجزة بلاغية عظيمة، وحين نفهمه حرفياً سنجد فيه من التناقضات ما قد يدفعنا للشك . لا شك أن الشعر فن أدبي بلاغي له مميزاته الأدبية التي تميزه عن الفنون الأخرى، وبعيداً عن الوزن والقافية التي هي مجرد قواعد للشعر نأتي للصور والأخيلة؛ لنجد الشاعر المبدع هو من له القدرة على خلق الصور، وتوظيف الخيال بشكل يعجز عنه غيره من البشر العاديين، فللشاعر قدراته الخاصة التي تميزه عن الآخرين بغض النظر عن الوزن والقافية التي هي مجرد قواعد تتحكم بموسيقى الشعر، ومن هذا المنطلق يُخرج بعض النقاد الشعرَ التعليمي من دائرة الأدب لأنه مجرد كلام سردي بشكل منتظم وموزون، وفهم النصوص الأدبية لا يكون حرفياً لأن الشاعر يوظف إبداعه في هذا العمل، وهو الشيء الذي يميّزه عن الآخرين وحين نفسر ذلك العمل بشكل حرفي فإنا بذلك نبخس الشاعر حقه ونقلل من قيمة العمل أدبا وفنا، فهاهو محمود درويش يتحدث عن وطنه فيقول :(أريدكِ حين أقول أريدكِ يا امرأة وضعت ساحل البحر الأبيض المتوسط في حضنها وبساتين أسيا على كتفيها وكل السلاسل في قلبها) إن جئنا لفهم النص بشكل حرفي لن نخرج منه بفهم واضح للنصبل إننا قد لا نجد للنص معنى، وسنجد الشاعر متخبطا في كلامه فهو يتحدث عن امرأة تضع الساحل في حضنها والبساتين على كتفها والسلاسل في قلبها، ولكن حين نأتي لنفهم النص فهماً أدبياً يُـقيم وزناً للمعنى الشعري فسنرى بأن الشاعر يعني بالمرأة وطنه فهو يصف جغرافيا هذا الوطن (يا امرأة وضعت ساحل البحر المتوسط في حضنها وبساتين أسيا على كتفيها) فالشاعر هنا أستخدم المرأة رمزاً للوطن وقد فهمنا ذلك من خلال سياق النص وكثيراً ما يستخدم محمود درويش المرأة كرمز للوطن وعند هذا الحد لا نجد اعتراضاً على الرموز، ولا نجد فهما يصر على إخراجها عن معناها الشعري الذي يحكمه السياق والدلاله، ولكن حين نأتي للفظ (الله) نجد بأن الله هو الله الذي ليس كمثله شيء ولا يمكن أن يكون شيء أخر فنسلب الكلمة رمزيّتها ودلالتها ومعناها الشعري الذي يختلف عن معناها العام ونصادر حق الشاعر في توظيف الألفاظ التي تتناغم ووجدانه للدلالة على المعنى الذي يريد بالصورة التي يريد، فهذا نزار قباني يقول: (حين رأيت الله في عمان مذبوحاً، على أيدي رجال البادية غطيت وجهي بيدي صحت يا تاريخ هذي كربلاء الثانية)هنا يوظف الشاعر الله أقدس الرموز لدى المسلمين بل لدى الموحدين بشكل عام في قصيدته التي يتحدث فيها عن جريمة أو مجزرة حدثت وأيا كانت هذه الجريمة فالشاعر يراها بحجم جريمة ضد الله، وهذه الجريمة تذكره بكربلاء، فهل قُتِلَ الله في كربلاء؟! الله هنا ليس إلا رمز الضحايا الذين قتلوا، وقد أستخدمه الشاعر للدلالة على عظم هذه الجريمة، وهناك دلالات أخرى كثيرة للفظ الله فقد أستخدم نزار نفس اللفظ(الله) لدلالات أخرى في بيت أخر من قصيدة أخرى فيقول : (من أين يأتي الشعر يا قرطاجة والله مات وعادت الأصنام ) الشاعر هنا يتحدث عن زمن عادت فيه الأصنام، وهذه الأصنام قد أُلغيت مسبقاً من قبل الدين ثم جاء زمن مات فيه هذا الدين، فعادت الأصنام..، هنا الدين هو الدلالة للفظ (الله) وتفهم هذه الدلالة من سياق المعنى الشعري للبيت،وحتى الأصنام هنا لم يقصدها نزار بذاتها بل بمعناها أيضا ويقول عبد العزيز مقالح في ديوانه: (كان الله قديماً حباً كان سحابة كان نهاراً في الليلِ وصار الله رماداً صماً رعباً في كف الجلادين ) في هذه الأبيات الدلالة على المعنى أوضح من أبيات نزار السابقة فالأبيات تفسر المعنى إذ أن الدين (الله) في القديم كان يمثل الحب والتعايش المشترك بين الجميع، وكان كالسحابة التي تستظل تحتها كل المذاهب والأديان وكان الله أي (الدين) نهاراً ساطع بحضارته وأحكامه وعدله في وجه الليل المظلم، والجاهلية التي كانت سائدة ولكن هذا الدين (صار الله رماداً صماً رعباً في كف الجلادين ) قد أصبح رماداً بكل ما يحمله هذا اللفظ من الاحتراق و بقايا الأطلال لدين شوهه الجُهال والمتعصبون وأستغلوه لمصالحهم، وأصبح مطية يمتطها كل حاكم دكتاتوريّ من أجل القتل والتعذيب، وهذا هو المعنى الذي أفهمه من هذا الرمز فهكذا تعودت فهم (الله)، فالله الذي ليس كمثله شيء هو الله الذي ليس كمثله شيء، ولكننا مهما بلغنا سيصبح تفسيرنا وأحلامنا تجاه الله (شيء)، كما إن مضمون الله في المعنى الشعري يختلف عن معناه الحرفي، فليس هناك احتكار للمعنى من قبل اللفظ، فالمعنى يختلف في دلالته من موقع لأخر كما جاء في النماذج السابقة، كما انه ليس هنالك احتكار لله من قبل دين من الأديان، أو طائفة من الطوائف، وتتضح لنا حقيقة أن مفهوم الله لدى اليهود مغاير عن الله لدى المسيح، والله لدى المسلمين مغاير عن الله لدى اليهود، والمسيح...، ونستنتج أن الله ليس محصوراً لأحد، بل إن الله للجميع، وكذلك الكلمات هي كلمات عامة في حد ذاتها، ولكن كل أديب يستخدمها حسب فهمه وثقافته ووجدانه وبيئته فليست الألفاظ هي سبيلنا الوحيد لفهم المعنى، بل إن هناك رموز وتشبيهات وصور وخيال قد تتسع إلى اللا محدود بمعناها الأدبي وبها جميعاً نستطيع تذوق اللفظ وفهم المعنى.
الرمزية في الأدب والفن.
التعريف :
الرمزية مذهب أدبي فلسفي غربي، يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بواسطة الرمز أو الإشارة أو التلميح.
- والرمز معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها أو لا يراد التعبير عنها مباشرة.
- ولا تخلو الرمزية من مضامين فكرية واجتماعية، تدعو إلى التحلل من القيم الدينية والخلقية، بل تتمرد عليها؛ متسترة بالرمز والإشارة.
- وتعد الرمزية الأساس المؤثر في مذهب الحداثة الفكري والأدبي الذي خلفه.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
● رغم أن استعمال الرمز قديم جداً، كما هو عند الفراعنة واليونانيين القدماء إلا أن المذهب الرمزي بخصائصه المتميزة لم يعرف إلا عام 1886م حيث أصدر عشرون كاتباً فرنسيًّا بياناً نشر في إحدى الصحف يعلن ميلاد المذهب الرمزي، وعرف هؤلاء الكتّاب حتى مطلع القرن العشرين بالأدباء الغامضين. وقد جاء في البيان: إن هدفهم "تقديم نوع من التجربة الأدبية تستخدم فيها الكلمات لاستحضار حالات وجدانية، سواء كانت شعورية أو لا شعورية، بصرف النظر عن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى هذه الكلمات، وبصرف النظر عن المحتوى العقلي الذي تتضمنه، لأن التجربة الأدبية تجربة وجدانية في المقام الأول".
● ومن أبرز الشخصيات في المذهب الرمزي في فرنسا وهي مسقط رأس الرمزية:
- الأديب الفرنسي بودلير 1821 – 1967م وتلميذه رامبو.
- ومالارراميه 1842 – 1898م ويعد من رموز مذهب الحداثة أيضاً.
- بول فاليري 1871 – 1945م.
- وفي ألمانيا ر.م. ريلكه وستيفان جورج.
- وفي أمريكا يمي لويل.
- وفي بريطانيا: أوسكار وايلد.
الأفكار والمعتقدات :
من الأفكار والآراء التي تضمنتها الرمزية:
● الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية.
● البحث عن عالم مثالي مجهول يسد الفراغ الروحي ويعوضهم عن غياب الأفكار الدينية (= ليس كل الرمزيين ملحدون)، وقد وجد الرمزيون ضالتهم في عالم اللاشعور والأشباح الأرواح.
● اتخاذ أساليب تعبيرية جديدة واستخدام ألفاظ موحية، تعبر عن أجواء روحية، مثل لفظ الغروب الذي يوحي بمصرع الشمس الدامي والشعور بزوال أمر ما، والإحساس بالإنقباض. وكذلك تعمد الرمزية إلى تقريب الصفات المتباعدة رغبة في الإيحاء مثل تعبيرات: الكون المقمر، الضوء الباكي، الشمس المرة المذاق.. الخ.
● تحرير الشعر من الأوزان التقليدية، فقد دعى الرمزيون إلى الشعر المطلق مع التزام القافية أو الشعر الحر وذلك لتساير الموسيقى فيه دفعات الشعور.
ا