البنية العميقة للنص: وهي تمثل مخزونات المعاني التي يحتوي عليها مضمون النص، كما نجد فيها المقاصد الحقيقية الفنية والمعنوية البعيدة ونتساءل أولا: بم نحس ونحن نقرأ هذا النص ونعيد فيه؟. إن الإحساس يسبق الإدراك، وإن حالة الشاعر وشعوره أول ما يصل إلينا من خلال لهجة الشكوى والاستعطاف والإيقاع الصوتي في حروف المد الطويلة التي تحمل معها وجع الشاعر وصوته المخنوق بالألم في جرس الحاء المفتوح والمشبع بألف الإطلاق على امتداد القافية المتكررة، ثم ما نلبث أن نجد هذا الوجع الهادئ العميق يسري في كلمات النص كلها مثل:
(صد.. أشاح.. حراما.. سقت.. الهم.. ما وجدت.. ملت نفسي.. استوحشت.. سجن.. شوكا.. يشوكني.. أبيت.. مضني.. وسنان.. ظمآن...الخ) هكذا نشعر مع الشاعر بد مشكلة عويصة وأزمة حادة تكاد تخنق أنفاسه وتتجاوز حدود ذاته إلى أن تكون أزمة أمة وشعب بأكمله، يجاهد الشاعر في إخفائها فتغلبه عاطفة الوفاء لقومه والشفقة عليهم فينفجر بالشكوى المرة تلو الأخرى، ويطفح الهم الذي يخفيه على كلمات كلسانه. ويمكننا معاينة هذا الصراع الرهيب بين الشاعر وبين قوى الشر المسلط عليه وعلى الشعب الجزائري، وهي قوى استعمارية ظالمة، في عدة نقاط نجملها في الآتي:
(مكعب تحليل النص الشعري)
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] إن المعنى المتشكل في النص الشعري "ياليل" مزيج من الأفكار والأحاسيس التي تنقلها اللغة المشكلة في قالب شعري رفيع المستوى تؤثر فينا بصورها وإيحائها وتلميحها اكثر مما بصريح ألفاظها أو وضوح دلالاتها، لذلك يكون الخطأ محاولة نقل معنى النص الشعري إلى كلمات منثورة، وإنما نستطيع وصف هذا الأثر المعنوي من عدة جهات. فما هي أقسام هذا النص الشعري وأدواره في النص؟
ذكرنا أن النص من الشعر الذاتي الغنائي والدليل على ذلك إسناد الخطاب فيه إلى الذات، وهي ذات المتكلم المفرد في اللوحة الأولى الممتدة في اثنتي عشرة بيت (تريني.. أرى.. عني.. علي.. ما وجدت سقت…) إلى آخر هذا المقطع الشعري، وهذا الحضور الكبير جدا لذات المتكلم "أنا" بصيغها المختلفة ليس القصد منه تضخيم الذات والإكبار من شأنها كما في غرض الفخر مثلا، لكنه حضور قوي لأجل إثبات وجود الشخصية أو الذات وتمكينها في مقابل التهديد بالمسخ والاستئصال من الآخر المعارض لهذه الذات وهو الاستعمار الذي لم يذكره النص صراحة لأسباب فنية تتصل بالخوف أو التجاهل أو التحقير أو الكبرياء أو غير ذلك. وقد وجد الشاعر في لفظ "الليل" بما يحمله من مضامين سلبية ومخاوف كثيرة محتملة ما يقوم في شعوره مقام الاستعمار بأفعاله القبيحة .
ومع البيت (13) تبدأ موجة جديدة من الانفعال المتنامي بالمقت والكره نحو ذاك "الليل" البغيض الذي ليس سوى صورة حسية للاحتلال البغيض، وتكبر ذات المتكلم لتصير جماعة كثيرة العدد هي الشعب والأمة التي يدل عليها الضمير "نا" :
(..عنا.. لنعقد.. ما بيننا.. إنا.. إقترحنا..)، وقد استأنس الشاعر بهذا الضمير الدال على الجمع والكثرة لذلك تطور الخطاب الشعري من الشكوى في البداية إلى التهديد بالحرب في هذا المقطع "أطفئ حروبك عنا.." والى التلويح بالانتماء الجماعي "إدلاء قومي" الذي بعث في نفس الشاعر وعاطفته شيئا من الامتعاض والاعتزاز والتفاؤل أيضا في لفظ "صحاحا" ويعني به وجود قدر من الأصالة والعزيمة والقوة الكامنة في الشعب لاسترجاع السيادة وتحرير الوطن من المعتدين.
وبتذكر هذا المعتدي تندفع في البيت (21) موجة جديدة من الإحساس والمعنى الذي يكون خلاصة مركزة لما تقدم في النص الشعري من المواقف الانفعالية والمعاني الذهنية التي فجرها وجود الاحتلال باسطا نفوذه وسطوته حتى كان ذلك الامتزاج بينه وبين الليل بكل المعاني السالبة للحياة مثل (عاد.. داس الحمى.. استباحا.. إلى متى أنت داج..) ومقابل هذا الليل المعادل للاستعمار، يقوم في نفس الشاعر لفظ "الفجر" ليكون معادلا للأمل في التحرر والسيادة والجهاد لأجل الحياة الكريمة… وبذلك تكتمل حركة الانفعال في النص لأن إحساس الشاعر ومعه إحساسنا أيضا قد تغذى بالأشياء والمعاني المذكورة في النص حول الليل والاستعمار والحرية والفجر الجديد وغير ذلك وصار هذا الإحساس مشبعا بها، وقد تحقق مراده في النص الشعري وعلى مستوى الشعور أيضا، وبذلك تنتهي القصيدة على نحو مناسب.
لاحظنا أن الموجات الانفعالية المكونة للنص تمثل صراع الذات أو الهوية الوطنية في مواجهة الآخر المحتل الأجنبي، هذا الصراع هو جوهر المعنى الشعري في النص، لذلك نجده يتشكل أشكالا عدة ويتلون بألوان بيانية وبديعية وإيقاعية كثيرة ونتساءل هنا:
ما هي طبيعة الصور والمجازاة التي يشكل بها الشاعر نصه انطلاقا من التراث أو من الخيال كي يجعل منها أوعية لمعانيه وتلوينا لإحساسه ؟ النص على هذا المستوى غني جدا بالصور البلاغية التي لا يكاد يخلو منها بيت من القصيدة، نتبين فيه توظيفا مميزا وغير مألوف لأنساق اللغة، ولكن الأهم من هذا أن نعرف الغاية من ذلك الاستعمال غير العادي للكلمات واتساع دائرة المعنى والإيحاء الجمالي وقوة التأثير في السامع أو القارئ، ونأخذ مثالا على ذلك من البيت الأول حيث نجد مجازا مرسلا (لغويا) في لفظ (ليل) واستعارة في لفظ (جناحا) بالإضافة إلى صيغتي: النداء الذي أفاد التعجب والتوبيخ والاستفهام الذي خرج إلى التمني.
متى تريني الصباحا
يا ليل طلت جناحا
فقد أراد الشاعر أن يجعل قارئه في وضع يحس معه بفداحة الاحتلال الغاشم لأرضنا، وقهره لشعبنا بقوة السلاح والتعذيب والتجويع وحرمانه من نور المعرفة والصحة...الخ فتخيل عدوه هذا في صورة ليل جاثم على البلاد، هو ليل طويل ليس له آخر ينعدم فيه الأبصار وحرية الحركة كما في البيئة الريفية، وكرر هذا اللفظ مرات عديدة ليفهمنا في لطف ورفق جميل أن المقصود به ليل الاستعمار الذي هو مركب لغوي يأخذ جزءا من معناه من الظاهرة الطبيعية الإعجازية وجزءا آخر من أفعال المستعمر الغاصب الظالم، ولم يقف خيال الشاعر عند هذا الحد بل ركب في جسم هذا الكائن المزجي المخيل (ليل الاستعمار) جناحين عظيمين كما في الأساطير ليجعل منه وحشا رهيبا يجثم على الوطن كله ويخنق الأنفاس، أنفاس الشعب الطيب الأعزل من كل سلاح وبفضل هذا "الجناح" المستعار لوصف هذا الوحش الحقيقي بأفعاله (الاستعمار) استطاعت كلمات الشاعر أن تزرع فينا إحساسا جعلنا نصدقه ونفهم عنه أن حياة الجزائريين البائسة المعذبة في ذلك الوقت قد تحولت فعلا إلى ليل طويل مظلم بلا صباح أو نهار يبصرون على ضوئه طريقهم أو يصلحون حالهم.
إن تحليل مثل هذه الصور البيانية يكون ممتعا جدا، لكننا هنا إيثارا للاختصار نقدم جدولا يبين تلك الصور ونوعها وبعض وظائفها فقط.
تلك هي إذن هي أهم الصور البيانية الواردة في النص، ويمكن لقرائه أن يتوسعوا في التأويل والتحليل بما يجعل كل واحد منهم يكشف ما لا يحصى من الإيحاء والمعنى الذي يربط به هو بوصفه قارئا متميزا بتجاربه ومتفاعلا مع احتمالات المعاني المتولدة من السياق، وهذه الحرية عند الملتقى ضرورة لإحداث الأثر الجمالي في نفسه بكونه قارئا يبدع فهمه الخاص وينتج النص من جديد هذا من ناحية المقروئية والتلقي.
أما من ناحية ترتيب العناصر والصور البيانية، فنلاحظ سيادة فن التشبيه بعامة بست صور ثم الكناية بخمس صور فالاستعارة بأربع صور وهذا يعني أن النص يتحرك في منطقة الوضوح ويحتفظ باستقلال الأشياء في مخيلته ويحترم حدودها المرسومة لها في العالم الخارجي الموضوعي كما يقضي عمود الشعر العربي قديما، فلم يتدخل للعبث بتلك الحدود في مساحة ضيقة لأنه في كل من التشبيه والكناية والمجاز يجوز الاحتفاظ بالدلالة الوضعية مع استحسان المعنى البلاغي فيها أو الدلالات الأخرى (4،3،2...الخ) كما نلاحظ أن المواد المستعملة تتوافق مع ما هو مألوف في صور الشعر العربي القديم (الجناح.. الوجه أو الصدود.. السجن.. الشوك.. الظمأ.. الورد.. البلابل.. الخ) لذلك، لا يجد قارئ هذا النص أية صعوبة لتحقيق التواصل مع مقاصد الشاعر الحقيقية وفهم نواياه، وليس في حاجة إلى تكلف الجهد الكبير لمعرفة أن "الليل" مثلا جاء رمزا لتصوير الاحتلال وبشاعة ظلمه، وربما كان جمال هذا النص قد جاء من هذا القصد النبيل ومما يعرفه القارئ مقدما عن فضاء الشعر العربي مبنى ومعنى.
يعد النص الأدبي بعامة، ولاسيما الشعر، ممارسة إبداعية يظهر فيها الجهد والاختيار واضحين من خلال التعديل المستمر الذي يدخله المبدع على أنظمة النصوص السابقة في التراث فيجعل اللغة في حركية دائمة ونمو مطرد مع احترام الأصول والقواعد التي بدونها يستحيل فهم النص الجديد. وفي هذه الأنساق اللغوية الجديدة أو المعدلة تتمركز شخصية الشاعر وموهبته وجمال أسلوبه.
فما هي تلك الأنساق المميزة في نصنا وما دلالاتها الخاصة؟ بالعودة إلى هيكل النص أو بنيته الكبرى التي ذكرنا أنها تمثل صراع الذات (الأنا) في مواجهة الآخر (هو) الذي ليس سوى ظلام الاستعمار وليل الكوارث على أبناء الجزائر. لأجل أداء هذا المعنى فنيا اصطنع النص الشعري نمطين من البناء اللغوي : بناء التضاد وبناء الترادف وكلاهما جاء في شكل تقابلي تناظري يعكس حقيقة تقابل العدو (هو) مع الشعب (الأنا أو نحن)، ونصف هذه الأنساق كالآتي:
نلاحظ في هذا النموذج النسقي تمركز الشخصية المعارضة أو الشريرة بأفعالها (الاحتلال) في مطالع الأبيات لتحتل بذلك مواقع الصدارة تتحرش بالشخصية الشاعرة رمز الشعب وتسبب لها تحريضا وألما ومضايقات لا تنتهي في مواجهة مكشوفة وحادة غير رحيمة لأنها هذه القوة الظالمة الغاشمة تريد قهر الذات الشاعرة صحبة الحق البشري وتسعى إلى إقصائها وحرمانها من حقها قي أرضها، لذلك نجد هذه الذات المظلومة المهضومة تنـزاح على مستوى النص -كما في الواقع- فتحتل أعجاز الأبيات حيث تثبت وتقاوم بإصرار وتكاد تتمركز في ألفاظ القافية خاصة متشبثة بهويتها ومطالبها الكبيرة المشروعة (صباح.. مباح.. انشراح.. تتاح.. قراح.. صحاح.. بطاح.. جناح...الخ) وهذه الملفوظات المشكلة لإيقاع القافية هي ما يزود النص بمعناه العميق الصحيح حتى لو جاءت الأخيرة في الرتبة، (وقد تسمى القصيدة قافية)، فعاقبة هذا الصراع غير المتكافئ بين الذات والآخر الأجنبي ينتهي لا محالة لصالح الذات المؤكد في نهايات الأبيات. ولجرس الروي الحاء المشبعة بحركة المد المفتوح دلالات أخرى على إخراج الألم وخدمة الإيقاع الموسيقي.
ب-نقس تراد في وتذييل يحيل على أفعال الآخر المحتل:
نلاحظ هنا في كل هذه الأنساق وما يتبعها من إلحاق أنها تمثل سطوة المستعمر المعارض للرغبة الوطنية والقامع للذات الشاعرة التي تجسد تلك الرغبات وذاك الطموح إلى الحرية والعافية والاستقلال والازدهار...الخ، فالاحتلال وهو لفظ غير مصرح به لكننا نجده حاضرا بقوة في معسكره الرهيب (الليل، الصدود، السجن، البرد، الحروب، التجهيل، لست ادري، الكساح، العوان)
وهذا المعسكر الطاغي من شأنه أن يحطم كل شيء جميل ونافع في الحياة والوطن ويدنس الوجود. والدنس لفظ ديني يفيد معنى تشويه العقيدة وتدمير الروح.
ج-نسق تراد في تذليل يحيل على الذات الفردية والجماعية:
نلاحظ أن هذا النسق يحيل على الذات منها بالقوة والقهر، فهي لا نفتأ تطالب الغالب باسترداده، وتتوسل إلى ذلك بشتى الوسائل والصيغ التعبيرية ومنها النسق الترادفي الذي جاء لغرض الكشف عن فداحة المأساة الوطنية على مستوى حياة الفرد - الشاعر والجماعة- الشعب، وهذه الأنساق المذيلة بالتطويل والإلحاق نجدها تعبر تارة عن الشكوى من معاناة طويلة قاسية وتعبر تارة أخرى عن إنفساح الأمل والثقة بالنصر وترقب الفجر والصباح والانشراح والصداح والأقداح... وهذا يعني أن الصراع مستمر في الواقع ومتجدد ليرغم ظهور قوة المعتدي فالذات الشاعرة مصرة على المقاومة وثابتة في النص لم تفقد صوابها ولم تستنفذ كل وسائل الدفاع عن حقها وهويتها ومن بينها هذا الشعر واللغة العربية التي كتب بها
هذا الجمع بين الايقاع والعاطفة مقصود، لان الإيقاع حركة للنفس تنقلها موسيقى الأبيات وأجراس الحروف وأصوات الكلمات بفضل انتظامها في نسق أو انساق معلومة، وكيفيات مميزة في التلفظ بها عند الإلقاء أو الإسناد (القراءة) فالإيقاع متضمن في الشعر والنثر -كالسجع والازدواج مثلا- إلا انه في الشعر اظهر بالنظر إلى توفر هذا الإطار العروضي العام الذي ذكرناه في بداية التحليل.
وتتنوع الإيقاعات في الشعر بتنوع أحوال الشاعر العاطفية من إيقاع راقص، ومأساوي، وثوري.. ونحوها، وثمة ما يربط بينها وبين موسيقى الأفكار التي رأيناها في الألوان البديعية، لان الفكر يبحث دائما عن التماثل والتقابل أو التضاد والتنافر.
وبالعودة إلى النص نلاحظ سرعة جريان الإيقاع ونلاحظ النغمات الشجية في الجمل القصيرة المتوالية تعبيرا عن العاطفة المأزومة المكروبة بهاجس الاستعمار الذي قمعها وحد من حريتها وحرمها من تحقيق مطالبها وطموحها، فجاءت جمل النص قصيرة ومشحونة إلى أقصى حد بالغيظ والألم، وهي ما أن تبلغ حد القافية في النهايات المؤقتة حتى تنفجر في حرف الحاء المطلق الممدود بصوت مفتوح عن آخره كأنه صرخة حادة لإخراج الألم المحتبس في النفس بإخراج الهواء من الحلق "حا" للتخفيف المؤقت من الهم الجاثم (ليل الاستعمار)، ثم تندفع غصة أخرى من حرف الألم مع جمل البيت الذي يلي السابق بتشكيلة جديدة من إيقاعات أخرى قصيرة حادة مشفوعة أما بياء المتكلم الذي يفيد انكسار النفس وانغلاقها على حزنها: (تريني.. صدعني.. أمسى علي.. فراشي.. نفسي.. كأنني تحتي.. يشوكني...الخ) وهي صيغ تتحد مع المدلول السلبي للمضامين المعنوية فتكون ما يعادل نغمة الأنين أو البكاء المكبوت إلا في حالات قليلة تمثل حلم الذات الشاعرة حينئذ وأما مشفوعة بأصوات لين تسمح هي الأخرى بتقطيع الألم والحد من أثره الضار على النفس مثل: (أبيت.. وسنان.. أرجو.. المنى.. ظمآن.. ماء.. أجيل.. تأبى.. حروبك...الخ) وهذه الأصوات والإيقاعات على اختلافها تنقل توتر مشاعر الذات وسرعة دقات القلب وحدة الانفعال لذي هو تارة يهدا قليلا وتارة أخرى يتصاعد بعنف مع ثورة النفس غضبها على المستعمر (الليل) فتكثر الكلمات الممدودة والأصوات اللينة وتختلط معها بعض الأصوات الانفجار التي تنقل عاطفة الغضب والسخط مثل (أطفئ حروبك.. استوحشت.. لم ارج.. انشد ماء.. أسرفت.. لا تزدها.. فما أجبت...الخ) وهي جمل قصيرة جدا كما نرى ومتقطعة تتوزع وحداتها الإيقاعية في ثنايا النص لتنفث فيه الروح الرافضة المتمردة والمتحدية لجبروت الاستعمار. لذلك لا يوجد نوع واحد من العاطفة في النص بل فيه عدة عواطف -الشكوى، الاستعطاف أو الرجاء، السخط، الثورة، التبرم وغيرها- وبتعبير آخر النص فيه عاطفة لكنها ليست على حالة واحدة مستقرة، بل هي عاطفة متوترة متغيرة تكون متهادنة حينا، وثائرة حينا آخر وحالمة أحيانا ومتوارية تماما في بعض الأحيان، فهي ترسم في النص ما يشبه خطوطا متعرجة فيها ذرى ومنخفضات وانكسارات كثيرة غير مستقرة، فهل نسأل بعد هذا إن كانت عاطفة الشاعر صادقة أم كاذبة؟
نجد نص محمد العيد يتقاطع مع عدد لا حصر له من نصوص التراث العربي الإسلامي بما فيه من شعر ووصايا وخطب وأمثال وقصص وقرآن كريم وأحاديث نبوية وغير ذلك، بحيث يؤدي اشتباك هذا النص الشعري بكل تلك النصوص السابقة تعالقه معها إلى اتساع دائرة المعنى وتعدد مستويات الفهم والتأويل، فهذا أمر حتمي في الأدب لأن شاعرنا لا يملك أن يفرغ الكلمات التي استعملها في نصه من مضامينها المعنوية المتراكمة في الاستعمال السابق ليصب فيها المعنى الذي يرده هو فقط، ولهذا سيؤدي هذا التراكم المعنى في اللفظ الواحد إلى تعدد الفهم، وهو شيء محمود في الأدب، وبه ترتفع درجةالاعلامية ويزداد النص غنى بمضمونه المكثف المضغوط المعنى.
لقد حصل هذا الاشتباك والتقاطع أو التناص في عدة مواضع، حصل في البيت (1) باستعارة لفظ "الجناح" إذ نجد في القران الكريم "اخفض لهما جناح الذل"، وفي لفظي "الليل والصباح" تقاطع مع أبيات امرئ القيس "الليل... وما الإصباح" وفي البيت (3) تناص مع قاعدة فقهية (الحلال والحرام)، وفي (7،6،5) تقاطع وتناص مع أبيات النابغة الذبياني "كأن العاذلات فرشن لي هراسا به يعلى فراشي ويقشب" وفي البيت (9) تناص مع صور الصحراء في الشعر الجاهلي وفي (10) أيضا في لفظ لقداح، وفي (12،11) تقاطع مع الشعر الرومانسي وفي (14) تناص مع أبيات زهير في الحرب وحديثة عنها وعن ناقة ثمود وفي (16،15) تناص مع الأحاديث السياسية ولغة الأحزاب وفي (19،18،17) عودة إلى التقاطع والاشتباك مع معلقة امرئ القيس في وصفه نجوم الليل... وهكذا
الليل بهذا المعنى الواسع غير المحدود والموجه أساسا تكشف عيوب الاستعمار وفضح جرائمه المموهة المستورة الشبيهة بما يحصل في الليل الدامس، -إن هذا- ينقلنا إلى الحديث عن الزمن الشعري والحيز الشعري أيضا في النص فالشاعر -والأديب عامة- لا يتعامل مع حقائق العالم والأشياء بالمفهوم المتعارف عليه عند سائر الناس، بل يكون تعامله اللغوي هذا خاصا ومميزا لما فيه من مسحة فنية وجمالية متأتية من شحنات الأحاسيس والتلوين أو الأصباغ الذاتية الخاصة التي يصبغ بها ألفاظه فيعطي الأشياء شكلا مغايرا وطعما مختلفا عن المعتاد وعلى هذا يكون زمن النص الشعري هنا مختلفا تماما عن الزمن التقويمي الطبيعي المعروف في لفظ "الليل ورديفه النهار" فليل النص ممتد بلا نهاية أو نهار يعقبه، ونحن نظل نجهل هذه النهاية التي يترقبها النص بشوق كبير ولكنها لم تأت فنحس بسطوة هذا الليل وعنفه واستبداده على الذات الشاعرة حتى صار يتناسل في كل أبيات النص تقريبا عبر تكوينات لغوية ونسيج تعبيري مكثف يصدم وعينا -نحن القراء- فيدخلنا في عالم من الوحدة والوحشة والرهبة الممتدة بلا انقطاع، (الليل.. الإمساك.. الحرام.. الهم.. الاستوحاش.. السجن.. الشكوك.. الرماح.. البرد.. الظلمة..) فزمن النص -إذن- هو زمن نفسي خاص بالحالة الشعورية المعبر عنها، ولا يخضع في شيء من طوله ومعناه إلى ما يعرفه الناس في الليل الطبيعي، إذ العلاقة بينهما عبارة عن قرينة لفظية فقط.
وكذلك زمن النهار المرتقب في النص نعرفه بالإحساس فقط ونعلم يقينا انه يرتبط بجملة من الأحلام والأفراح والآمال العريضة، ولكنه زمن غائب، وغيابه هذا جعل ذات الشاعر تتألم لفقده وتتشوق لرؤيته، فالنهار موجود في وعيها ولكنه لم يتحقق عمليا لذلك يلجا النص إلى استحضاره في الحلم فقط (ورد.. نرجس.. أقداح.. البلابل.. ترنم.. الفجر.. لاح.. الصباح..)، وهذه طريقة تعويضية معروفة في علم النفس تمت بأداة سحرية وفنية وهي الحلم.
وكذلك شان الحيز أو المكان في النص يختلف عن الأمكنة المعاناة التي نراها في الواقع، ولفظ "الحيز" انسب للمعنى الشعري والأدبي من "المكان" فهذا الحيز الشعري يتصف بعدم التعيين التام بفضل شاعريته الخيالية وتنوعه الشديد من ناحية، ولكونه أيضا حيزا خرافيا متخيلا بحيث يندرج ضمن تشكله كل الأصقاع المعتمة التي لا تنفذ فيها الرؤية، في باطن الأرض وفي الأدغال والكهوف والمحيطات وفي أجواء الفضاء البعيدة لأن في هذه الأحياز كلها شيئا من معنى الليل ومن خفيته الرهيبة الغامضة التي تكاد تخنق أنفاس الكائن الحي بمجرد أن ينتقل إليها في الخيال. فالصباح المغيب قهرا يدخل ضمن هذا الحيز وكذلك الشوك والساحات الموحشة.. والرماح الحادة.. والسجن المطبق.. والرياح العاصفات.. والحروب الدائرة.. والماء الذي يسيل زلالا ولكنه في مكان مجهول.. والكواكب الحيارى في مواقعها من الكون اللانهائي.. والمرضى الذين يمكن أن نتخيلهم على مضاجعهم يتوجعون.. وحتى في القروح وأماكن الوجع في أجسادهم.. كل ذلك يدخل ضمن الحيز الشعري المثير في نص محمد العيد وليس الجمال الفني في هذا النص سوى أن نطلق العنان لتخيلاتنا بارتياد هذه الأماكن وغيرها مما يوحي به جو النص ولغته.
ولما كان الحيز الشعري في النص المتمثل في "الليل" يلاحق الذات الشاعرة فيطردها إلى المنافي البعيدة الموحشة إمعانا منه في تعذيبها -كما تقدم- فان هذه الذات تتشبث بالمقابل في حقها المشروع أن يكون لها حيز ثابت معلوم هو ركنها الأصيل الجميل فترسمه على هذا النحو الشعري الحالم، وطن الشعراء والبلابل
ونرجسا وأقداحا
وانظم الشعر وردا
ترنما وصـداحا
يأبى البلابـل إلا
لكن هذا الحيز غير حقيقي ومؤقت اتخذه النص محطة استراحة ظرفية والتقاط الأنفاس لأجل هجوم جديد على المحتلين "الليل" الذين حرموه من التمتع بالحيز المستقر بعد أن حوله المعتدي الأثيم من حيز شعري جميل إلى أرض الحروب والدمار واستباحة كل شيء فيها
داس الحمى وإسباحا
ياليل كم فيك عاد
والتعبير عن الوطن بلفظ "الحمى" من أوثق الروابط التي تحقق لشاعرنا تواصلا وتناصا مع التراث العربي حيث يفيد "الحمى" كل ما يشمل مجال الحماية والتحريم بوصفه ملكية خاصة لا تستباح ومقدسا لا ينتهك
الأسلوب لا ينحصر في طرق الإسناد والصور البيانية والصيغ البديعية فقط، وإنما يشمل كافة الجوانب اللغوية والتعبيرية الخاصة المتصلة بإظهار العلاقة الاندماجية التي تكون بين شخصية الشاعر والأديب المبدع الفنان وبين طريقته المميزة جدا التي يعبر بها في فنه وأدبه، وهي علاقة متينة تبلغ حد التوحد، فيقال حينئذ: هذا النص لفلان حتى قبل أن يعرف القائل، فليس الأسلوب سوى الأديب التي سال بها قلمه، وروحه التي تتمثل في كلماته المنضدة لان "الأسلوب هو الرجل" كما قال أحدهم.
ومحمد العيد في هذه القصيدة يبدو مشرفا على فنه من بناء شامخ باذخ، هو تراث الشعر العربي العتيد الذي يراه شاعرنا من زاوية النبل والكمال، لذلك تجب المحافظة عليه، والحاجة إلى التجاوز عنده تكون بتخير افضل تراكيبه، والانتقاء من أجود صوره ومواقفه، والاهتداء إلى طرق مسالكه، لهذا السبب لا يبتكر النص طريقة جديدة في تراكيبه وتأليف صوره. ولكنه يحيي الصور الجيدة في التراث والمواقف الواضحة الصحيحة فيتخير اللفظ الشريف والسبك المتين فيجعلها جزءا من أسلوبه: فالليل الطويل المد لهم بالأحزان يبينه الجناح العظيم الرهيب الرحيب كجناح العنقاء أو الغول يخنق ضحيته في صمت تحته. والألم الشديد نحس بها ونراها من خلال الفراش الشوكي المعد للتعذيب لا للنوم والراحة مثله مثل الرماح الحادة النافذة في الجسد، وكذلك الربط بين حالة الامتناع والخيبة وبين الظمآن فاقد الماء الذي يؤم سرابا.. وهكذا سائر الصور التي درسناها يتخيرها الشاعر فيلتقط جزئياتها مما يتأثر عن التراث العربي ويعيد تشكيلها وفق طريقته وحاجة فنه مما يشكل أسلوبه المميز بهذا الاختيار وهذا الوضوح والأناقة والإيجاز. نستطيع -إذن- بعد استقصاء الأمثلة -كما سبق- أن نصف أسلوب محمد العيد في النص بأنه نسج فني مستقطر من كل الأساليب الشعرية العربية الراقية قديما أيام ازدهاره في العصر العباسي، فيه ديباجة شعر البحتري وحلاوة لفظة، وغوص أبي تمام على المعاني وحسن بديعه، واستقصاء ابن الرومي للمعنى وتفريعه.. كل ذلك يدخل في أسلوب شاعرنا بنسب متفاوتة، ومحمد العيد مع ذلك لم يدع لنفسه يوما منزله أحد هؤلاء، ولا تجرأ أن يطلق على فنه لفظ "مدرسة"، وانما هو عضو في تيار شعري كبير هو شعر الأحياء في العصر الحديث الذي امتاز بطوابع أسلوبية خاصة كالعناية بنقاء اللفظ وحلاوة الجرس الموسيقى ووضوح المقاصد ونبل المعنى
إن النص الشعري والأدبي الجيد بعامة لابد أن يكون ذا مغزى إنساني عميق رغم انه ليس وثيقة تاريخية ولا خطبة اجتماعية أو سياسية ولا هو شهادة إثبات للحالة النفسية الذاتية، ولكنه نص فني جمالي في أساسه وتدخل في تركيبة عناصر كثيرة من هذه المعارف كلها ومن غيرها، ويزيد عليها بكونه طاقة من التخزين الإيحائي والجمالي المشع، والتي لا توجد في هذه المعارف.
فهل نقول بعد هذا أن نص محمد العيد يعد من الشعر الوطني التحرري، أو من الشعر السياسي، أو من الشعر الإصلاحي، أو شعر الشكوى والمعاناة، أو شعر الوصف...؟
كل هذه المعاني موجودة في النص الأول لان تلك هي طبيعة النصوص الأدبية الإبداعية وخدمة الأغراض والقيم الإنسانية الخالدة، تكن بعد إشباع الحاسة الجمالية الناشبة من التشكيل الفني للغة