لقد طرأ على النثر تطور هائل خرج به من مجالاته الضيقة التيكان يدور فيها من قبل إلى مجالات رحبة فتعددت مناحيه , وتشعبت فنونه , فكان النثر الأدبي الخالص , ثم النثر الفلسفي والعلمي والتاريخي والشرعي وما إلى ذلك , ومن أهم الأسباب التي أدت إلى تطور النثر ما يلي :
أولا – الانفتاح الثقافي الهائل على ميراث الأمم الأخرى , وذلك عن طريق الترجمة من ناحية , وعن طريق الاندماج الغوي والفكري من قبل العناصر غير العربية حيث اصطنع هؤلاء اللغة العربية وتعمقوا في قراءة التراث العربي الإسلامي , واتخذوا العربية أداة للكتابة فأثروا في أساليبها وفي مضامين نصوصها التي كتبوها : ومن هذه الثقافات التي استوعبتها اللغة العربية الثقافة اليونانية والفارسية والهندية , وبعيدا عن الجدل الدائر بين الدارسين حول أثر اليونانية والفارسية , فإن لهاتين اللغتين وتراثهما أثر مشهود في تطور النثر العربي , وهناك من يرى أن الفارسية أقوى أثرا لأسباب عديدة منها وفرة الآثار الفلسفية الأدبية التي ترجمت إلى العربية , وكثرة الكتاب الفرس الذين لمعوا في أدبها وفكرها ومنهم ابن المقفع على وجه الخصوص , وهناك من يرى أن اليونانية أبعد أثرا , ويرد على أصحاب الرأي السابق وجلهم من المستشرقين , ويرد هؤلاء عليهم بالقول أن الثقافة اليونانية كانت قديمة العهد في هذه البلاد منذ أيام الإسكندر , وكانت اللغة الرسمية لأهل الشرق الأدنى وكانت مدارسها منبثة في مصر وسوريا والعراق , بل إنها كانت موجودة في البلاد الفارسية نفسها وتركت أثرا عميقا حتى في الفارسية نفسها , فقد اشتدت الصلة بين اليونان والفرس وتعمقت الثقافة اليونانية في بلاد الفرس , فالعقل الفارسي كان شديد التأثر بالثقافة اليونانية , فضلا عن أن الثقافة الفارسية محدودة , وأن الأدب العربي أثرى وأخصب وأن الفرس استفادوا من العرب أكثر مما استفاده العرب منهم , ومن الواضح الآن التأثر لم يقتصر على الفارسية أو اليونانية بل إن روافد عديدة رفدت الحياة العربية والثقافة العربية وانعكس ذلك كله في النثر العربي مما أدى إلى اتساع نطاق الموضوعات والمضامين على نحو ما أشرنا أضف إلى ذلك وضع العلوم اللغوية والشرعية .
ثانيا – أثر بيئات المتكلمين في النثر العربي : لقد كان لتعدد المذاهب والفرق أثر كبير في النثر العربي , وخصوصا المتكلمين الذين استعاروا مناهج اليونان في الاستدلال والمنطق , فكان من المعتزلة كتاب لهم باع طويل كالجاحظ وبشر بن المعتمر والعتابي وغيرهم ممن طبعوا العصر بطابعهم , ومظاهر التأثر لا تتوقف عند المصطلحات والألفاظ بل تتعداها إلى المناهج والطرق , فهناك القياس المنطقي وطرائق التعليل والاستدلال والغوص على أدق المعاني , فقد كان لهؤلاء الكتاب فضل في تطويع التراكيب العربية لاستيعاب المعاني العلمية والفلسفية الدقيقة , وكان من ثمرة ذلك التخلص من الألفاظ البدوية الجافية , والملائمة بين الألفاظ من الناحية الإيقاعية وهذا أثر من آثار التأنق والترف الحضاري .
ثالثا – اجتهاد بعض الكتاب والفلاسفة في التعرف على مناهج الأمم الأخرى في البلاغة والبيان إذ يروى أن معمرا صاحب فرقة المعمرية من المعتزلة يطلب من ( بهلة ) الطبيب الهندي في عصر البرامكة أن يدله على مفهوم الهند للبلاغة فيعطيه صحيفة مكتوبة بالسنسكريتية ( الهندية القديمة ) ويعتذر عن ترجمتها لأنه لا يتقن صناعة البلاغة , فيلجأ معمر إلى من يترجمها له , وقد أوردها الجاحظ في البيان والتبيين وهي تشرح الشروط اللازمة لإتقان الخطابة , ولا يتسع المجال لإيراد فلسفة كتاب المعتزلة في فنون القول فهي منبثة في تضاعيف كتاب الجاحظ السالف الذكر , فللعتابي ولبشر بن المعتمر , وعمرو بن عبيد الكثير من هذه الآراء التي توضح مدى اهتمامهم بإتقان الكلام لأنه عدتهم في الرد على خصومهم وإيضاح معتقدهم .
رابعا – تحول الدواوين إلى مدارس بيانية , فمن شروط العمل في هذه الدواوين إتقان صياغة الكلام بحيث يكون وسطا بين لغة الخاصة والعامة , فكان الشباب من الكتاب يتعرضون لامتحانات قاسية في مجال الكتابة حتى يحصلوا على وظائف في هذه الدواوين , لذلك سعوا إلى تعلم البلاغة وأساليبها .
فعبر هذه العوامل المتعددة التي هيأت الأسباب ليتطور النثر ارتقى وازدهر , وتصرف الناثرون وتفننوا في فنونه المختلفة وفي مختلف ضروب القول .
وفي مرحلة تالية تطور النثر , فقد أخذ المترجمون يعيدون النظر في كثير مما ترجم في المرحلة الأوى التي أطلق عليها ( مرحلة النقل والترجمة ) فقد حفلت ببعض الترجمات الحرفية , وقد أشار البعض إلى ابن المقفع الذي أصاب أسلوبه بعض الإلتواء حتى عده أحدهم وهو طه حسين من مستشرقي تلك الأيام حتى لاحظ أن عربيته تفتقر إلى تلك الروح المألوفة لدى البلغاء , بينما أرجع آخرون ومنهم (شوقي ضيف ) سبب ما أصاب لغة ابن المقفع من انحراف إلى طول العهد بكتاباته وما ألحقه النساخ من تحريف وتشويه . وقد قفز حنين بن إسحق بالترجمة إلى عهد جديد حين اتبع أسلوب التحقيق المعهود في المخطوطات حيث يجمع كافة النسخ المتعلقة بالكتاب المترجم ويقابل بينها , وقد أعيدت ترجمة كتاب الخطابة لأرسطو طاليس . وقد عمد غير الأدباء من الفلاسفة والمؤرخين والفقهاء إلى إتقان العربية والإلمام بأسرارها مما جعل كتاباتهم دقيقة فصيحة على نحو ما نجد عند الفيلسوف الكندي .
وكان هناك ثلاث اتجاهات في الكتابة :
الأول : يمثله المترجمون السريان ومن لف لفهم من الكتاب , وهؤلاء نادوا بالرجوع إلى المقاييس اليونانية .
والثاني : يمثله علماء اللغة المحافظون وهؤلاء يتمسكون بالأساليب العربية .
والثالث : يمثله المتعلمون وهؤلاء وسط بين الطرفين , وقد شاع أسلوب المتكلمين لأنهم هم الذين تبنوا وضع قواعد البلاغة , وقد اشتمل كتاب البيان والتبيين على معظم ملاحظات البلاغيين , وقد مهد السبيل لابن المعتز صاحب كتاب (البديع ) فيما بعد .
من كتاب النثر العباسي الجاحظ , ابن المقفع , بديع الزمان الهمذاني عبد الحميد الكاتب , ابن العميد أبو الفضل , القاضي الفاضل