لجذور الفكرية والعقائدية:
● لقد انبثقت الرمزية عن نظرية المثل لدى أفلاطون، وهي نظرية تقوم على إنكار الحقائق الملموسة، وتعبر النظرية عن حقائق مثالية، وتقول: إن عقل(*) الإنسان الظاهر الواعي عقل محدود، وأن الإنسان يملك عقلاً غير واعٍ أرحب من ذلك العقل.
● وفي أواخر القرن التاسع عشر تجمعت عوامل عقدية واجتماعية وثقافية لولادة الرمزية على يد: بودلير وغيره من الأدباء:
● العوامل العقدية: وتتمثل في انغماس الإنسان الغربي في المادية(*) التي زرعتها الفلسفة(*) الوضعية، ونسيان كيانه الروحي، وقد فشلت المادية والإلحاد(*) في ملء الفراغ الروحي.
● العوامل الإجتماعية: وتتمثل في الصراع الاجتماعي الحاد بين ما يريده بعض الأدباء والمفكرين من حرية مطلقة وإباحية أخلاقية، وبين ما يمارسه المجتمع من ضغط وكبح لجماحهم، مما زاد بتأثرهم بنظرية المثل الأفلاطونية وكتابات الكاتب الأمريكي ادجار الآن بو – الخيالية المتميزة.
- العوامل الفنية : وذلك باعتقادهم أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعورية العميقة، فلم يبق إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره.
الانتشار ومواقع النفوذ:
● بدأت الرمزية في فرنسا حيث ولدت أكثر المذاهب الأدبية والفكرية، ثم انتشرت في أوروبا وأمريكا.
● ويكاد يكون هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوروبي وضياعه بسبب طغيان النزعة المادية وغيبة الحقيقة، والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها، من خلال علوم توهم بالخلاص عند السير في دروب الجمال، ولا شك أن الرمزية ثمرة من ثمرات الفراغ الروحي والهروب من مواجهة المشكلات باستخدام الرمز في التعبير عنها.
ويتضح مما سبق:
أن الرمزية مذهب أدبي وفلسفي، يعبر عن التجارب الأدبية الفلسفية من خلال الرمز والتلميح، نأياً من عالم الواقع وجنوحاً إلى عالم الخيال، وبحثاً عن مثالية مجهولة تعوض الشباب عن الفراغ الروحي، وذلك باستخدام الأساليب التعبيرية الجديدة، والألفاظ الموحية، وتحرير الشعر من كافة قيود الوزن التقليدية.
الموضوعات ووسائل الأداء :
الشعر الرمزي شعر وجداني وهو منبثق من الشعر الإبداعي , ولكنه يختلف عنه في أنه رد فعل على الإبداعية المسرفة , فهو لا يعبر عن عواطف مفصلة واضحة , بل يعبر عن مشاعر مبهمة وحالات نفسية غير محددة .
والشعر ومضات سريعة وخلجات عابرة , ولكي تصل الرمزية إلى هذا المناخ الشعري غيّرت في وسائل الأداء .
وسائل الأداء في الرمزية :
1ـ الشعر كلمات : رأى الرمزيون أن اللغة جمدت من فرط الاستعمال , ولم تعد قادرة على مواكبة الإحساسات العصرية , وهي واضحة عقلية , وأعماق الذات ضبابية رمزية , فحاولوا إيجاد حل لأزمتها .
ـ فاكتشف بودلير جمالية القبح , وأدخل إلى اللغة ألفاظاً كانت ممنوعة قبله مثل ( الحلازين – القبور – العظام ) .
ـ واهتم رامبو بلون الكلمة وإيقاعاتها الداخلية .
ـ ولجأ مالارميه إلى الانزياحات اللغوية , وحمّل اللغة ما لا تحتمل فأصبحت اللغة أهم من الموضوع في القصيدة .
2ـ الشعر موسيقا : اعتبر الرمزيون أن النغم أساس القصيدة ومفتاحها , فالمناخ الشعري يسهل الوصول إلى منطقة اللاشعور , ورأوا أن أثر الصوت لا يقل عن أثر العطر أو اللون .
فقد استنجد بودلير بالموسيقا :
تحملني الموسيقى مثل البحر
نحو نجمتي الشاحبة
أدفع الشراع تحت سقف ضباب أو في أثير واسع
3ـ الشعر صورة وعلاقات جديدة : يلجأ الشاعر الرمزي في صوره إلى العلاقات غير المتوقعة بين طرفي التشبيه , كقول بودلير : أنا جميلة أيها البشر , كحلم من حجر
ـ ولجأ الرمزيون إلى ما يسمى ( تراسل الحواس ) فالحواس تتبادل , والشاعر يستطيع تشبيه المؤثرات السمعية بالبصرية أو اللمسية لأن وقعها في النفس متشابه .
ـ ويرى بودلير أن ( تداخل الحواس ) يجعل الكلمة غابة من الرموز , فتأخذ الكلمات دلالات جديدة تمكن من الوصول إلى منطقة اللاشعور .
4ـ الشعر رمز: الرمز هو الأداة الرئيسية للتعبير في هذا المذهب – والرمز أقدر على نقل الحالات النفسية والشعورية التي لا يصرح بها الشاعر , كالرمز باللون الأحمر إلى الثورة والحركة والحياة , وهذا هو سبب إبهام الشعر .
5ـ الشعر الحرّ: أدى تغير البنية الداخلية للشعر إلى تغير شكل القصيدة الخارجي , وقد رأى الشعراء الرمزيون أن على الشاعر أن يُخضع القالب الشعري لخوالجه المتغيرة , فأطلقوا حرية الشكل وحاولوا العثور على النغمة المطابقة لخفقات الروح والوجدان .
2 ـ الرمزية في الأدب العربي الحديث
الفرق بين الرمز والرمزية :
الرمز : موجود في كل أدب , شعري ونثري , فالليل في قصيدة امرئ القيس رمز لحالته الوجدانية , وهو يوحي بالحزن والحقد والخيبة .
الرمزية : هي مدرسة أدبية ذات أسس ومقاييس محددة , وهي بنت الفكر الذي أنتجها والمجتمع الذي احتضنها .
الرمزية في النثر العربي :
ـ كان جبران أول من التقت في نثره تيارات الإبداعية والرمزية والصوفية .
ـ وتميز نثره بالحس الرفيع واستخدام الألفاظ الموحية والعبارات الحالمة .
ـ وتظهر الرمزية عنده في شخصية ( حفار القبور ) فالحفار قناع رمزي يبسط من خلاله جبران أفكاره ومواقفه . وهو ثوري يرى مالا يراه الإنسان العادي كبنات الجن , ويميز بين الأموات والأحياء في المجتمع ويدعو مخاطبه ليتزوج صبية من بنات الجن , ويتعلم حفر القبور , ومن خلال الدلالات المتلاحقة يعبّر عن ثورته على التقاليد التي سيطرت على عقول الناس .
الرمزية في الشعر العربي :
س دورة ( 1995 ) : تحدث عن الرمزية في الشعر العربي الحديث وأيد ما تذهب إليه بشاهد واحد من الشعر العربي الحديث.
ـ ظهرت الرمزية عند بعض الشعراء في سورية ولبنان ومصر والعراق . فاتخذوها مذهباً لهم .
ـ منهم من سار فيها حتى النهاية . ـ ومنهم من استفاد منها ثم تحول إلى غيرها .
من الفئة الأولى :
ـ رائدها : الشاعر سعيد عقل الذي مهّد لها في المقدمة النقدية لقصيدة المجدلية .
ويرى أن غاية الشعر نقل حالة نفسية مستعصية على التحليل العقلي .
والشعر عنده مناخٌ وليس أفكاراً , وهو مناخ ضبابي موسيقي يعتمد على الإيحاءات الموسيقية والصور الرمزية , ويستند إلى تبادل الحواس , فالحب أغنية أطيب من الشذا كما يقول :
هــواك يـا شـاعـري أغـنـيـة الـخـاطـر
أطيـب , أشـهـى , ألذّ مـن شـذا عـابــر
ـ ويتوق سعيد عقل إلى الوصول إلى شعر رمزي خالص.
ـ وقد حاول أن يخلق لغة في اللغة , فأضرّ باللغة العربية كثيراً .
والفئة الثانية : س دورة ( 1997 ) : تحدث عن الفئة الثانية الذين اغتنوا بالرمزية وعن استخدام الشعر الحديث للأسطورة .
ـ هناك مجموعة من الشعراء اتخذت الرمزية مذهباً لهم فاستفادت من خصائص الرمزية , واستخدمتها للتعبير عن إحساس دقيق أو تحليل فكرة عميقة أو إضافة قيم جمالية للأدب كالإيحاء والرمز والأسطورة ومنهم : ( بشر فارس ـ وصلاح لبكي ـ ونزار قباني ـ وعمر أبو ريشة ـ و السياب ) .
ـ استخدام الشعر الحديث للرمز الأسطوري : كان يتم بطريقتين :
1ـ استخدامه بشكل سريع في أثناء القصيدة على أنه رمز يغني النص , كاستخدام السيّاب لرمز سيزيف في قوله:
وعند بابي يصرخ المخبرون
وعرٌ هو المرقى إلى الجُلجُلة
والصخرُ , يا سيزيف , ما أثقلَه !
فالشاعر يشبه نفسه بسيزيف الذي يتعذب دائماً بالصخرة التي يجرجرها دلالة على عذابه وغربته . ولكن هذه الرموز لا تؤدي دورها لجهل القارئ بها .
2ـ استخدام الرمز الأسطوري على أن يكون هو القصيدة نفسها شكلاً ومضموناً مادة وهيكلاً :
حيث تغدو الأسطورة شكلاً من أشكال التعبير ومادة له , بعد أن يشكلها الشاعر بطريقة تناسب تجربته الشعورية ومثال ذلك قصيدة ( تموز جيكور ) للسياب .