كما أن شكل الكتاب الذي يمنح للقارئ نوعا من الأمان قد عوض بمتاهة يمكنه أن يضيع وسطها دون أدوات وآليات توجهه، فغياب الكتاب حرمه من خلفية ينطلق منها وعليه أن يعيد خلقها من جديد وهذا ما رمى إليه ميشيل لونوبل (Michel Le Noble) بقوله: "باختفاء الكتاب لم يتبق إلا القليل من العناصر التي تعطي للقارئ خلفية ينطلق منها لذلك أصبح لزاما عليه أن يعيد خلق ظروف إنتاج الكتاب التي ستمكنه من فك شفراته. فالنص حاليا بدون هذه الواسطة المادية (الكتاب) أصبح نصا بلا تاريخ" . وأمام هذا الإنتاج الثقافي الجديد، الذي يتقدم للقارئ أعزل في غياب هذه الخلفية التاريخية، نتساءل عن الطريقة والأدوات التي بوسعها مساعدتنا على تقييم هذا النص: أنقيمه بالارتكاز على مقولات وقواعد الأدب التقليدي؟ أم بالارتكاز على ما جاءت به المعلوميات؟ من يستطيع الحكم بجودة أو رداءة هذا النص؟ ما هي القواعد التي يرتهن إليها؟ أسئلة شتى يفجرها هذا النص بسبب هجنته وازدواجية بنيته التي تجمع بين البنية اللسانية والبنية المعلوماتية.ورغم وجود العديد من الأحكام القيمية التي أطلقتها كل من التفكيكية وما بعد البنيوية فإن مجموعة من الإجراءات القرائية هي التي تحاول أن تضع مفاهيم للنص المترابط وطرائق قراءته.
6. غياب النهاية:
يمتاز النص المترابط بغياب النهاية بمعناها التقليدي، فالنهاية توقع حينما يتعب المستعمل ويشعر أن شيئا بداخله قد استنفذ. فحيثما توقف تلك هي النهاية. وأينما ابتدأ تلك هي البداية.
غياب النهاية –والبداية أيضا- يرجع بالأساس إلى الشكل المتاهي الذي يتخذه هذا النص وبالضبط المتاهة ذات المسارات المتعددة، ويقودنا هذا إلى الحديث عن خاصية أخرى هي: شكل المتاهة.
7. الشكل المتاهي:
نشير بدءا إلى أن مصطلح "المتاهة" هو استعارة ناتجة عن التقاء الحاسوب وشبكة المعلومات العالمية التي سرعت من وتيرة التحولات التي لحقت بحضارتنا. فنحن لم نعد نتواصل بالطريقة ذاتها، كما أن علاقتنا بالنص وبالقراءة هي الأخرى بدأت تتغير، وبتنا نلمح هذه التغيرات في الاستعارات الموظفة للتعبير عن تجربة الشبكة والنشاط الذي تولده. فكما يشير كريستيان فاندندروب (Christian Vandendrope) في دراسة له حول "قراءة النص المترابط" الاستعارات التي نستدعيها ونولدها ليست مجرد ترف لغوي لأنها تمكننا من إدراك العالم وبنينة مجالات كاملة من تجاربنا خاصة ما تعلق منها بالشبكة التي أعادت اختلاق صورة المتاهة التي يتخذ الشكل فيها أهمية قصوى، فالذي يهم ليس الأثر الذي تخلفه المتاهة في القارئ وإنما الشكل في حد ذاته كما يؤكد على ذلك ميشيل فوكو "المتاهة ليست المكان الذي نتيه فيه وإنما المكان الذي نخرج منه تائهين" . وشكل المتاهة الذي يلائم النص المترابط –كما سبق وذكرنا- هي المتاهة ذات المسارات المتعددة لأن هناك عنصرا مشتركا بين هذا النوع من المتاهات التي تنطوي على نفسها وتنكمش آخذة شكلا دائريا، لانهائيا وحالة الترقب التي يولدها النص المترابط الذي يظن القارئ بأنه اقترب من مركزه أو من معناه الخبيء، ليتلاشى هذا المركز بما فيه من معان محتملة، فيصاب المستعمل بحمى النقر، ينقر ويعيد النقر باحثا عن الهدف المنشود الذي يتبخر وينسرب من بين يديه كلما ظن أنه أمسك به أو شارف على ملامسته.
أما المتاهة ذات المسار الواحد أو المزدوج فهي لا تلائم النص المترابط لأنها تتوفر على مركز في حين أن الشبكة صممت أصلا في شكل بنية تفتقر للمركز لحمايتها من الدمار ومن تجمع المعلومات في نقطة واحدة.
8. التركيز على الكلمة:
يرتكز النص المترابط بشكل كبير على الكلمة التي أفرغت من محتواها اللغوي لتعبأ بمحتوى إخباري، فأصبحت الكلمة مكانا للاحتراب والصراع. فمن جهة هي علامة لغوية كما هو الحال في النص، ومن جهة أخرى زر (Bouton) بمعناه المعلومياتي. ومع ذلك فليست كل الكلمات عبارة عن أزرار، فبعض منها يقود إلى عقد والآخر لا يمتلك أية وظيفة معلوماتية لأنه لا يمكن تنشيطها. والكلمات/ الأزرار غالبا ما تكون بارزة بوضع سطر تحتها أو بكتابتها بلون يختلف عن اللون الذي كتب به النص.
هذه الوظيفة المزدوجة: "اللسانية والإخبارية" تجعل النص يعرف صراعا دائما بين الوزن الدلالي للنص بأكمله ووزن الزر، وتزداد حدة هذه المنافسة حينما يتم استدعاء الصورة، أو الصوت فينشد اهتمام القارئ أكثر بهذه المفاجآت التي تبزغ فجأة أمامه كنتوء بارز فتغيب عن ذهنه الحمولة الدلالية للكلمة وتترسخ في المقابل وظيفتها المعلومياتية أي: مجرد قنطرة لولوج فضاءات أو عقد غير منتظرة .
إن التركيز على الكلمة يولد عدة سجلات تتمظهر في شكل ثنائيات ضدية، إذ يقف الاتساق والانسجام الموضعي للكلمة كمقابل للاتساق الكلي. فالأول يفترض جملة من الإجراءات التي لا تمت بصلة للاتساق العام، لأنه يفترض العزل، أما الثاني فيتطلب الربط.كما تقف الوظيفة المعلوماتية كمقابل للوظيفة السيميائية؛ فالأولى عبارة عن سجلات معرفية قابلة للتنشيط والثانية تمحو هذه الوحدات لصالح البنية العامة للنص. هذه الثنائيات تجعلنا إما نتجاهل الجانب الدلالي/ الحكائي للنص، وإما ننشد كلية للأزرار الناتئة على جسده.
وينبغي الإشارة كما يؤكد على ذلك برتراند (Bertrand) وكزانتوس (Xantos) في معرض حديثهما عن الكلمة/ الزر إلى أن "القراءة الدلالية ليست لها نفس أهداف ونفس وسائل أدوات قراءة المفاجآت، لكن على الاثنتين أن تتكاملا ليكون هناك نوع من التوازن في توزيع القوى، حتى لو كانت القراءة الثانية تطغى أحيانا على الأولى" .فالرواية التفاعلية التي تعد شكلا من أشكال النص المترابط السردي لا تقرأ، مبدئيا، للحكاية التي تسردها وإنما للإجراءات التي توظفها كالمتاهة الشكلية التي تفتح لنا أبوابها، أو الكلمات/ الأزرار التي تتقدم ككلمات/ حقائب.هذه الإمكانيات التكنولوجية تجعل من هذا الإنتاج لعبا، ولعل هذا ما جعل روجر-لاوفر (Roger Laufer) يعتبر أن "لذة النص المترابط ترتكز على مفاجآت تركيب وبناء النص من خلال اشتغال أوالية الاختفاء" مشيرا بذلك إلى قراءة ما تصبح ممكنة من خلال توظيف: العقد، الأزرار والروابط التي تتقدم كمراكز تستحوذ على الاهتمام.
9. التقطيع:
عوض التتابع بالتقطيع الذي يسهل عملية اقتطاع النصوص السردية أو غيرها من الكل الذي يحتويها وقراءتها منعزلة دون أن يؤثر ذلك على وحدة البناء أو المعنى الخاصة بهذه النصوص التي اكتست نوعا من الاستقلالية بفضل هذا الطابع.
خاتمة
لقد مهد النص المترابط لولادة الرواية التفاعلية ورواية الواقعية الرقمية التي ابتدعها الكاتب الأردني محمد سناجلة. لذلك فمعرفة خصائص هذا النص تعد من الأولويات لكل دارس للأدب.